ذات يوم قالت جين مالاكويه لنورمان ميلر: «إن الكتابة هي الطريقة الوحيدة لمعرفة الحقيقة، والوقت الوحيد الذي أعرف فيه أن شيئاً ما حقيقي هي اللحظة التي اكتشفه فيها أثناء الكتابة، أكتب لاكتشف ما أفكر فيه وما أنظر إليه وما أراه وما يعنيه هذا الذي أراه، ما أريده وما أخافه وما الذي يجري في هذه الصور التي تدور في عقلي». بمثل هذه الرؤية اليقينية لدى الكاتب يقدم الروائي اللبناني ربيع جابر تجربة روائية مركزة وواضحة المعالم، فمنذ اكتشف ربيع جابر- كما صرح قديما- «قبل خمسة عشر عاماً أن تأليف الروايات هو الشيء الذي يريد فعله في هذا العالم» وهو يدأب في إصدار أعماله الروائية دون تراخٍ أو كلل، إلى درجة أنه يصدر رواية أو أكثر في كل عام؛ ذلك أن الكاتب الروائي يعيش هاجس الرواية والسرد طيلة حياته، فليست رواية أولى كافية ليقول كل ما لديه أو قدراً مرضياً منه. تفتح الرواية الأولى كوة صغيرة للهاجس السردي، بينما يأتي العمل الثاني ترسيخاً والثالث والرابع كشفاً رؤيوياً تتشكل من خلاله النظرة الخاصة للإنسان والحياة من حوله، وهكذا لا يشعر الروائي الحقيقي أبداً أنه استنفد ما لديه من رؤى وقيم معرفية تتكثف داخل الذات الساردة وتفيض عنها في أشكال تعبيرية متعددة. هذه الغزارة في الإنتاج لدى جابر لا تحيل إلى استسهال أو تساهل في الشرط الفني لما يكتب، بل تدعو إلى الإشادة والتقدير لكاتب جاد ومنتج، يندرج كل عمل من أعماله الروائية بطواعية تامة ضمن إطار تجربته التي نذر نفسه لها، ونذرها، أي التجربة، لإعادة وصل أشلاء العالم الممزقة، وأواصر الكون الفطرية الأساسية التي نبتت معالمها مع خطوات الحياة الأولى على سطح هذا الكون المسمى الأرض! إن القيمة الموضوعية الجوهرية في أعمال الروائي ربيع جابر هي محاولة إعادة صياغة ما يربط أشياء هذا العالم وكائناته المتناسلة من روابط هي مقتضى الوجود الواحد على بسيطة واحدة واستنشاق هواء مشترك، أرض واحدة تقلّ الإنسان والحيوان والطير والنبات والحشرات والأحجار والأنهار وكل الموجودات تحت سقف واحد، بين كل هذه الموجودات في العالم أواصر تفكّكت حتى تلاشت تقريباً، فانفرط نظام التعايش، وعمّ النفور واستقل كل شيء بذاته أو ببعضه، وربما تحوّل رابط الوصال أداة فصام وقطيعة، بل عداء أحياناً، لأجل هذا أخذ ربيع على كاهل رواياته إعادة تأثيث العالم في طبيعته الأولى ووصل ما انقطع وربط كل شيء بكل شيء في هذا العالم، تواقاً أبداً إلى تربته البيروتية والجبل اللبناني، وجلوله وقراه الصغيرة التي بعدت وعفت آثارها، مشفقاً على حياته وكينونته الإنسانية، وحياة كل ما هو حي في هذا الكون من تبعات هذه القطيعة الممضّة وما تفرزه من وحشية وعداوة. فضاءات ربيع جابر الروائية تدور غالباً حول بيروت في ترميز خفي، حيث تحيل تقلبات تلك الأسر الوادعة ومصائرها إلى مصائر بيروت وتحولاتها التاريخية والاجتماعية والسياسية، بيروت مدينة ربيع الأثيرة إلى نفسه، التي يقضي فيها – كما يقول في «بيروت مدينة العالم» ص 186ساعات طوالا كل يوم يتمشى في شوارعها متأملاً لوحات المحلات والبنايات الحديثة معيداً كل معلم قائم في هذه الأثناء إلى جذره البيروتي الأول، حيث هنا قرب مطعم scoozi وجدت بوابة الدركاه إحدى بوابات بيروت الست قبل مائة وثمانين عاماً، وفي مكان شارع ويغان كان يقوم في القرن التاسع عشر سوق العطارين، وجامع الصديق كان اسمه جامع الدباغة.. وهكذا يسعى في ربط الحاضر بالماضي ووصل الماثل بالدارس فيعيد تأثيث بيروت شاقاً شوارعها مشيداً جوامعها وكنائسها من جديد. في كل ذلك تلوح وجوه كثيرة لأقوام سكنوا هذا الروائي حتى صار بجذب برئتيه الهواء الذي كانوا يتنفسون. فمن الواضح أن له شأنا آخر من الصلة بشخصيات أعماله؛ فهي صلة دم حيّ يشتاق إلى لقاء دم برد ثم تبخر متسللا خارج شرايين الأحياء السابقين، إن الشخصيات تشكل في بعض الحالات أجداداً وأصولاً عائلية للكاتب؛ كالشيخ إبراهيم جابر وأبنائه العشرة الذين يتصل بهم بما يشبه صلة الحفيد النائي بالجد الماضي، أو ربما كانت الشخصيات أصدقاء أو معارف أو زملاء عمل مثل الكونت سليمان بسترس في «بيروت مدينة العالم» أو جذورا تاريخية وقومية كأبي حامد الغرناطي وأخيه الربيع في (رحلة الغرناطي)، لهذا ولغيره يبدو الكاتب حفيا بهم، محيطا بمشاعرهم وسلوكهم وأوصافهم الحسية والنفسية، يكاد يتوحد معهم بآصرة قوية تصل الكاتب بشخصياته في الرواية. كما أنه لا يتردد في ذكر أسماء الأحياء من أقاربه أومعارفه أو أصدقائه «إبراهيم العريس ورينيه الحايك ووليد نويهض على سبيل المثال» ضمن أحداث رواياته وحواراته معهم، فلا فرق لديه بين هؤلاء الأحياء وبين شخصياته الروائية، جورجي بابازواغلي أو العجوز اليهودي مزراحي مثلا! إذ هم يتساوون لديه في المعايشة والحضور واحتلال جزئيات حميمة في الوعي والشعور. كما يتحدث مع إبراهيم أصلان أو يأكل مع نويهض في بعض الأوقات، يحصل في أوقات أخرى كثيرة أن يرخي ذراعه على كتف الدكتور فاندايك أو يتابع ببصر قلبه الفتى شاهين البارودي يتسلق شجرة أو يتقافز على سطوح بيوت بيروت في القرن الماضي، ولعله بمثل هذا الاحتفاء والتواصل مع شخصياته يعيد لعنصر «الشخصية» في الرواية مكانته التي سعت بعض تيارات الرواية الجديدة إلى الحد من سطوتها وسيطرتها على بقية العناصر الروائية؛ حيث للشخصية في أغلب أعمال ربيع جابر مهمة تؤديها في السرد، محملة بقليل فلسفة وفكر عالي الصوت في بعض الأحيان.