يتساءل عديد من النقاد والمهتمين بمسيرة الشعر العربي كثيراً عن: هل هناك نهضة شعرية حديثة؟ أم أن هذه الحركة الشعرية «الفيسبوكية» إن صح التعبير، ليست سوى ظاهرة آنية؟ فهناك عشرات الأسماء المعروفة في العالم العربي، تنشط يومياً على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» وتنشر أشعارها التي تلاقي استحساناً، أو على الأقل قراءة من أكبر عدد ممكن من الناس، حيث ما أن يدخل المتصفح إلى صفحة الشاعر اللبناني اسكندر حبش، حتى يجد ما يزيد عن مائة تعليق وأكثر في ظرف ساعات قليلة من نشره لنص قصير،كما تجذب سمر دياب عددا من القراء، ولم يبلغ هؤلاء الشعراء مستوى النجومية التي بلغها شعراء سابقون، أمثال محمود درويش، ونزار قباني، وعبدالرحمن الأبنودي، وأمل دنقل، وعبدالوهاب البياتي، وبدر شاكر السياب، وآخرين من الذين عاشوا الفترة الذهبية للشعر، قبل أن يدخل العالم العربي فترة انطفاء، ليظلوا سادة الشعر، حتى قدوم عصر الثورة الجديدة، وحتى دور النشر أصبحت تتأرجح في رفضها نشر المجموعات الشعرية، بينما لا تنشر بعض الدور غير الرواية، وتقصي الشعر والقصة القصيرة من نتاجها لسوق الكتاب، أما الدور الأخرى فبلغ بها مستوى رفض الشعر رفض ترجمات لشعراء عالميين. «الشرق» وبمناسبة اليوم العالمي للشعرالتقت عددا من الشعراء والنقاد وناقشتهم حول مدى صحة ظاهرة إقبال القارئ العربي على النص الشعري «الفيس بوكي»، وهل يمكن أن يكون مرحلة ما قبل العودة للكتاب؟ وقد تطرقوا إلى عديد من القضايا والمتغيرات الحديثة المتعلقة بمسيرة الشعر العربي، في تفاصيل التحقيق التالي : فضاء للتعبير الخضر شودار يقول الأستاذ في جامعة ميتشيغن في «آن آربر» الخضر شودار، وهو شاعر وناقد ومترجم وقبلها كان أستاذاً في جامعة واين «لا أملك الآن حكماً ناجزاً على أن الشعر يعرف حركة نهوض على مواقع «النت» ، بمعنى التداول والكثرة، فكثيرون ينشرون يومياً شعراً على صفحاتهم في «فيسبوك» ويغريهم في ذلك لحظة التلقي الآنية السريعة، حيث يأتي التجاوب فورياً ومن غير انتظار، في صورة تعليقات الأصدقاء، واستحساناتهم، وكثيراً ما يترقب صاحب النص تلك الانطباعات وكأنها هي ما يمنح نصه قيمة جمالية، لتتوالى نصوص أخرى يتعقبها الأصدقاء ثانية. وهنا قد يكتب بعضهم لا لأنه في حاجة إلى فعل الكتابة بقدر ما هو في حاجة إلى تجاوب الآخرين، ويكتفي بهذا التجاوب كمعيار لقيمة ما يكتبه، هذا يحدث ليس فقط على فيسبوك مثلاً، ولكن أيضاً في الفضاء الثقافي العام». ثقافة شعرية وأضاف شودار»حين تسود ثقافة شعرية ما وتسيطر، لا يصبح في وسع من يتنفس فيها سوى أن يكرس ما هو سائد من داخلها، ويظن أن ما هو سائد مثال لأنموذج الكتابة التي يتوخاها، فهناك مثلاً أنموذج للكتابة الشعرية في العالم العربي، سواء انتبه الشعراء إلى ذلك الأنموذج، أم لم ينتبهوا، لكن آثاره واضحة في ما يكتبون، فالشعراء الشباب يكتبون اليوم بحرية أكبر، ويتحركون في مساحات أوسع من شعراء سابقين، وفي بعض نصوصهم ألق واستباق ورغبة في تعدد أشكال الكتابة، لكن الشعر لا يتخطى أشكاله السائدة إلا بثقافة جمالية وشعرية مغايرة، أي بأدواته وحفرياته ورؤاه هو، بعيداً عن وصايا الأنموذج السائد، وثقافة التنميط الشعري». فالشعر يشق طريقه دون بهرج المهرجانات والإحتفاء الزائف بالشعراء كائن خافت لميس سعيدي وقالت الشاعرة لميس سعيدي التي تنشط على «فيسبوك» بشكل مكثف، وتجتذب قراءً يفوقون المائة يومياً، وزائر صفحتها لا يمر دون أن يترك انطباعاً. هناك انتقادات لاذعة لبعض ما تكتبه، «أنسب عبارة أجدها لوصف الشعر اليوم أنه نضج، والنضوج ليس بمعنى الرصانة والوقار، بل بمعنى أنه لا يحاول أن يثبت أي شيء، لا يحاول أن يثبت أنه جميل أو أنيق، أو مؤدب أو يليق بالأدب، ولا أنه نجم يستطيع أن يلمع تحت ضوء كثيف، و يا لسخرية النجوم التي تتخيل أنها تلمع تحت ضوء كثيف.. الشعر هذا الكائن الخافت الذي يعرف كيف يدمر عتمة كاملة. محاولة يائسة وأضافت «ما يفعله الشعراء اليوم، أكثر من أي وقت مضى، أنهم يحاولون أن يسلكوا طريق هذا الشعر، ربما هي محاولة يائسة لتدمير العتمة بضوء خافت، وهنا لا أقصد عتمة العالم الفلسفية والفكرية والإنسانية، إنها عتمة يمكن الحديث عنها ببساطة أكثر، وبوضوح أكبر، عتمة واقعنا الثقافي والاجتماعي والسياسي، العتمة التي تخنق الحريات، وعتمة الرقابة التي لا تتجسد بالمنع، بقدر ما تتجسد بتكثيف الرداءة في كل هذه المجالات، لتصبح أيقونات ونجوم.» عبثية وقلق وأشارت سعيدي إلى أن شعراء اليوم يسخرون كما يسخر الشعر من تكالب بعض الناس على صفحات الجرائد، ودور النشر، والمهرجانات، ويسخرون من الألقاب والجوائز والتكريس وكل ما يتعلق بالكراسي، وقالت « كيف يكون الشِعر ممتعاً إن لم يكن ذلك الكائن الخفي الذي يسحب من تحتك الكرسي كلما حاولت الجلوس؟ إنهم يكتبون ولا يتوقفون عن الكتابة، ولا ينتظرون مباركة أحد، يلقون كتاباتهم كما يلقي الضائع في الغابة فتات الخبز ليعود إلى البيت بعبثية وقلق، كأنهم لا يريدون ترك شيء في أدراجهم السرية. ولأن الشعر من الكائنات الحداثية النادرة في عالمنا هذا، فالشعراء لا يشعرون بالحرج، وهم يستعملون «فيسبوك» لنشر شعرهم كما تُنشر الملابس الكثيرة في شرفات حي شعبي، ثمة الرديء وثمة الجيد، وثمة الشعر وثمة غير شعر، لكن الرديء ليس رديئاً بسبب «فيس بوك» والشعر ليس شعراً بسبب «فيس بوك» فالنشر على «فيس بوك» ما هو إلا طريقة مبتكرة لإخراج لسان الشعر». تأثيرات الثورة غسان جواد وتنير وجهة نظر الشاعر والمحلل السياسي غسان جواد جانباً مهماً في الموضوع، إذ يقول «لا شك أن التحولات الكبرى التي تشهدها المجتمعات العربية ستعكس نفسها بشكل أو بآخر على الفنون والآداب والمسرح والشعر،وقد بدأنا نرى تفاعل المثقفين والمخرجين والأدباء العرب مع ما يسمى «الربيع العربي» حيث ظهرت مسرحيات وكتابات وقصائد تقارب هذه التغييرات من زوايا مختلفة، هذا مع العلم بأن ما يحدث لم يتبلور بعد، ولم يأخذ شكله النهائي، وعلينا الانتظار قليلاً حتى نصبح أمام حالة ثقافية وفنية وشعرية يمكن نسبتها ونسبة فكرها وفلسفتها إلى الثورات العربية على غرار الحركات الأدبية والمدارس التي نشأت وتنشأ في العالم عند كل تحول كبير.» أجيال مختلفة ويضيف جواد « لقد ساعدتنا مواقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» و»تويتر» من خلال فضاءاتها المفتوحة على ملامسة بعض الجدية والتفاعل من قبل الشعراء والأدباء بأجيالهم المختلفة، وهذا في الحقيقة أمر متوقع بالنظر إلى علاقة الأدب الوثيقة بما يجري، لأنه العين الثاقبة للحياة، والقادرة على تظهير الحدث وقراءته بشكل مختلف، حتى بعض الجمل القليلة التي يمكن أن تكون «حدثية» في وسعنا نسبتها إلى التغيير الذي بدأ يطرأ على الشخصية العربية، من خلال هذه الثورات والشعراء. والأدباء هم أبناء هذه المرحلة والبيئة، وهم معنيون بالتفاعل معها استناداً إلى فلسفات أتوقع أن تبدأ بالظهور قريباً، والقصائد «المناسباتية» التي تتحدث عن قتل، أو اضطهاد وعسف، ليست ما أقصد بالتحديد، هذه القصائد متفاوتة في المستوى، ولا تعبّر عن تيار أدبي بدأ يظهر مستنداً إلى جدار الثورات العربية ليطرح فلسفته ورؤيته الأدبية والشعرية لهذه التحولات، ما أقصده يراهن على الزمن، وعلى الأثر الذي سيتركه «الربيع العربي» في واقعنا ومجتمعاتنا، وبالتالي في مناخنا الأدبي والشعري العربي، وهذا ما لن يتبلور إلا في مراحل متقدمة من المستقبل، حيث تصبح الرؤية أوضح، ويصبح الشاعر أقدر على ملامسة الواقع برؤية شعرية صافية غير متأثرة بالحدث المباشر، وهنالك مثل إنجليزي يقول «أعط الوقت وقته»، وأعتقد بأن نشوء تيارات أدبية وشعرية من قلب الربيع العربي أمر أكيد مع الوقت، وبدأنا نلاحظ إرهاصاته الأولى في بعض النصوص التي تتفاوت جودة وإبداعاً». نحو الحداثة وتكشف الشاعرة اللبنانية لوركا سبيتي الستار عن جانب آخر من جوانب فورة الشعر التي تكتسح ليس فقط فيس بوك،قائلة «لا شك أن الشعر العربي عبر شعرائه الشباب قد خطا خطوات مهمة نحو الحداثة، عبر تحرير القصيدة من قيودها اللغوية، وتوسيع آفاقها، ما جعلها تترافق مع روحية العصر الذي نعيش فيه ويعيش فينا.. هكذا ولدت القصيدة النثرية، أو قصيدة الشعر الحديث، كما حصل في الموسيقى، حيث تم تحرير الجمل الموسيقية الطربية الكلاسيكية عبر دمجها في إيقاعات سريعة سمحت للموسيقى العربية بأن تعيش عصراً جديداً بعد عصر ما سمي «عمالقة الفن»، فعبر الإيقاعات السريعة المنبثقة من روح هذا العصر المتسم بسرعة إيقاعه أصلاً تم إنشاء جمل موسيقية جديدة لينة وسريعة تبحث عن الحرية، وتذكر بروح الشاب «موزارت» الذي حرر الموسيقى الغربية الكلاسيكية من عتْقِها، وفتح أمامها آفاقاً جديدة عبر إيقاعاته السريعة والمبتكرة، والتي هزمت الزمن في دورانه، فلم يبق أمام الزمن أي جديد لتقديمه غير الموت، فمات موزارت شاباً، هذا على صعيد شكل القصيدة، أما بالنسبة للمضمون فقد فشل الشاعر العربي، وهذه حالة عامة أصابت بلادنا في مختلف القطاعات في إنتاج أي قيم جديدة على الصعيد الإنساني،فبعد أن كان العرب منتجين للحضارة، ومصدرين لها، تحولوا إلى مستهلكين». ليس شعراً فاطمة الزهراء وتشير الشاعرة المغربية فاطمة الزهراء إلى أن «الشعر لم يمت يوماً حتى ينهض الآن، وإذا كان هناك شيء قد مات فهو الذوق العام الذي اجتاحه نهم الاستهلاك السريع وليس الشعر، هذا الجنس الأدبي النخبوي الذي رافق نشأة البشرية، وكان اللغة التي عبر من خلالها الإنسان عن انتصاراته وانهزاماته، وعن آماله وإحباطاته، وانطلاقاً من هذا الارتباط العميق ما بين الشعر وجوهر الإنسان يزداد التشبث بالقصيدة كلما أحسسنا بالاغتراب عن ذواتنا، أعتقد أن حركة الشعر حالياً تعيش انتعاشاً ملحوظاً ساعدت عليه وسائل الاتصال الحديثة، حيث صار التواصل الإبداعي الخلاّق ما بين شعراء العالم سهلاً جداً عكس الماضي، لكن هذه الوسائل الإلكترونية، ومنها «فيسبوك» لا تصنع شعراء فقط، بل تُسهّل عملية التواصل، وبالتالي ليس كل ما يُنشر على صفحات «فيسبوك» شعراً، وغالباً ما تكون خواطر بسيطة جداً، فالشعر يحتاج إلى العزلة الجميلة، والقراءة المتأنية، وهذا لا يتيحه عالم فيس بوك». إحساس بالحب وأضافت فاطمة «بالنسبة للأسباب التي حركت قريحة الشعراء مؤخراً، فهي متعددة المصادر، وكل شاعر له أسبابه التي يتقاطع فيها الذاتي مع الموضوعي، وبالنسبة لي ما يشعل قريحتي حالياً هو الإحساس بالحب، الحب كقيمة إنسانية، كقوة خفية تجعل الكائن يحيا عكس الزمن، وما يجعلني أكتب باستمرار هو معارضة هذا الثقل من الأقنعة الرديئة التي نلبسها إكراماً لاستمرار صور اجتماعية رسمتها لنا الأعراف». نقلة نوعية فهيد البقعاوي ويرى الشاعر فهيد البقعاوي أن فيس بوك أحدث ثورة في التواصل استفادت منها كل الفئات بمن فيهم الشعراء وقال “شكل نقلة نوعية في وسائل إيصال الإبداع الشعري للمتلقي، مؤكدا أنه يشكل ظاهرة صحية تنعكس بالإيجاب على المشهد العام للشعر،وإن كانت لاتخلو من سلبيات «لكنها لا تضر بالتقييم العام للموقع». وعدد البقعاوي بعضا من الملامح الصحية ل الفيس بوك الشعري، قائلا” إنها تتركز على قيمة التواصل أولا بين الشاعر والمتلقي، وبين الشاعر وجميع من تربطهم به مصالح كمنظمي الأمسيات أو المؤدين.” ولفت النظر إلى أن هذا التواصل يدفع الشاعر لمزيد من الإبداع من أجل المنافسة ولأنه يستطيع تلمّس ردود الفعل مباشرة، وبذلك يكون ل “الفيس بوك” إسهام ليس في النشر فحسب بل في تطوير المنتج الشعري. معايير محددة وأكد الشاعر عبدالله الفهاد الشمري، أن ظاهرة الفيس بوك والتويتر قدمت خدمة للشعراء الشعبيين من خلال توسيع نافذة التواصل مع الجمهور، لكنها في الوقت نفسه جلبت ظواهر ليست بالإيجابية بالنسبة للشعر بحالتها العامة. وأوضح الفهاد بقوله: «غياب المعيار في النشر، يجعل الجميع سواسية، والمتلقي الباحث عن الشعر، لا يستطيع تمييز الشاعر العريق من المبتدئ». وأكد الفهاد أن بعض صفحات المجموعات الشعرية قد تشكّل استثناء بسبب إدارتها عبر مجموعة مراقبين يضعون معايير محددة، فيمكن عند ذلك قراءة نصوص منتقاة أو في الحد الأدنى خاضعة ل «الفلترة». وأضاف “إن إتاحة فرصة متساوية للجيد والرديء من «القصيد»، ستكون نتيجتها تأثر الجيد لأنه يشكّل أقلية «مثل كل الأشياء الجيدة» ويضيع في وسط طوفان النظم الرديء. خلاصة وجد الشعر فضاء أوسع وأرحب وأكثر حرية ليقال، ووجد قارئاً لم يستطع الوصول إليه عبر التسويق المتعثر للكتاب، وهذا الشعر أيضاً تأثر بالثورات العربية، فوجد موضوعات جديدة، لأن الركود العربي قتل موضوعات الحديث ب»الروتين» والتكرار المميتين للمخيلة وتجدد اللغة. وغير ذلك هو تخلص من عباءته القديمة، ودخل مرحلة الحداثة الحقيقية، باندماجه في الإيقاع السريع للحياة، وأصبح يشبه اليوم الذي نعيشه. مديرة «اليونسكو» :الشعر «حصن متين» ضد الإفقار الثقافي واللغوي في العالم الدمام الشرق يحتفي العالم اليوم بما سمته منظمة ال «يونسكو» «اليوم العالمي للشعر». هذا اليوم حظي به الشعر وحده دون «الأصناف» الأخرى، كالرواية والقصة والمذكرات والسيرة، وقالت المديرة العامة «لليونسكو» إيرينا بوكوفا في رسالتها بمناسبة «اليوم العالمي للشعر» هذا العام ، «إن الشعر أحد أسمى أشكال التعبير اللغوي والثقافي وهو يجسد الحرية المطلقة للكلمة والإبداع، ويشكل عنصرا مكونا لهوية الشعوب وعاملا يسهم في بناء هويتنا الشخصية في كثير من الأحيان، وهو الحيز الذي تنعقد فيه الصلة العميقة بين التنوع الثقافي والتنوع اللغوي، إذ تشكل اللغة الشعرية، بما تنطوي عليه من نغمات وصور مجازية وقواعد، حصنا متينا ضد الإفقار الثقافي واللغوي في العالم. وانطلاقا من الامتلاك المثمر لناصية اللغة، يثري الإبداع الشعري الحوار بين الثقافات الذي هو ضامن السلام.