في كراسة الإبداع الإنساني، تأخذ الثورات مكانها من التناول الإبداعي بمختلف أجناسه وضروبه المختلفة، ولعل الشعر يعتبر أكثر الأجناس الأدبية حفاوة بهذه الثورات، حيث تحفظ الذاكرة الإنسانية الكثير من الملاحم المصاغة شعرًا، والتي تمثل بجانب مظهرها الإبداعي، سجلًا تاريخيًّا لتلك الوقائع والمشاهد.. ولم يتغيّر الحال عمّا كان عليه سابقًا، فقد نجحت انتفاضة 25 يناير بمصر في استعادة الروح إلى الأدب والثقافة، مما منح فرصة كبيرة لأن تطفو القصيدة بشقيها الفصحية والعامية لسطح المشهد الثقافي مجددًا، بعد أن توارى الشعر في السنوات الأخيرة لصالح فنون أخرى مثل الميديا والسينما والتلفزيون وغلبت الصورة المرئية على الصورة الشعرية. وفى المشهد الحالي خرجت مئات القصائد من رحم انتفاضة الغضب المصري لتغنى لاستعادة مصر في زيها الجديد وشبابها الأبي ورجالها الأبرار. وعبَّر مجموعة من الشعراء عن سعادتهم لعودة الروح للقصيدة حتى رغم تحفظ البعض على الكتابات التي لا ترقى لمستوى الشعر لكنها أفرزت حالة إبداعية عامة عند كل الناس. مرحلة للفهم الشاعر محمود خير الله نظر للشعر وعلاقته بالانتفاضة بمنطق قوة الشعر وبقائه مهما كانت الأحداث في سياق قوله: الشعر يبقى شعرًا قبل الاحداث وبعدها، أنا عن نفسي أكتب عن الذات الإنسانية المهدرة، وهو ما يجعلني قليل الاحتفاء بالقصائد الشابة التي تكتب خلال الحراك الثوري في مصر، خصوصًا لأنها تبدو مرحلة أو “موضة”، لأن الشعر لا يمكن بلورة تجاربه خلال فترات قصيرة كهذه، بل يحتاج مرحلة للفهم لا بد أن تتكون فيها معرفة جادة بالعالم الذي تمثله الاحداث، أما أن يهرب البعض لتفريغ شحنات عاطفية متعجلة فهذا أمر لا يزال بعيدًا عن الشعر الذي يحتاج ما يكفي من التأمل. ويضيف خير الله: عن نفسي كنت متهمًا بكتابة قصيدة سياسية على ما حدث في ديواني “كل ما صنع الحداد” الصادر العام الماضي، وكان من المدهش للكثيرين أن تتبنى قصيدة نثر آراء سياسية، على الرغم من أن كثيرين كتبوا قصائد نثر تهتم بكسر التابو الجنسي أو الديني دون الالتفات إلى اكتشاف الإنسان باحباطاته المختلفة خصوصًا في العالم الثالث. أنا مع كل التجارب الشعرية الجادة. مختتمًا بقوله: أتمنى لتجارب الشباب المتحمس أن تتبلور لتأخذ حقها على خريطة الشعر الإنساني، لأن الجيل الذي صنع الانتفاضة المصرية يستحق أن يحصل على دوره في التعبير. حالة إبداعية فيما يرى الشاعر عبدالمنعم رمضان أن الانتفاضة خلقت حالة شعرية إبداعية جميلة وذلك من خلال الهتافات والشعارات التي رددها المعتصمون في ميدان التحرير الذي كنت أذهب إليه يوميًا لأتنفس هذا الكلام المسجوع والموزون، لافتًا إلى أنه لم يكتب شعرًا خلال هذه بل كان يفضل الخروج إلى الشوراع والميادين وبخاصة ميدان التحرير فهذا كان يشعر وكأنه يسير في داخل قصيدة حية متحركة وديناميكية وفاعلة تعبر عن رأي الشارع ورغباته المشروعة.. وتلك هي أجمل قصيدة يمكن لأي شخص حتى لو كان بالأساس شاعرًا أن يتنفسها ويعيش في روعتها. وأضاف رمضان: ما حدث عمل إنساني عبقري وراق جدًّا، ولن يفرز عملًا شعريًّا فقط؛ بل أثبت ميدان التحرير وما سيطرت عليه من مشاعر إنسانية عظيمة أن الشباب فجروا انتفاضة موازية في الميدان هي انتفاضة للفنون والآداب بين الأغنية والمسرحية والقصيدة الشعرية والإبداع السينمائي وغيرها من الفنون التي سوف تنضج بمرور الوقت وسنراها بشكل أوضح في السنوات المقبلة لتكون معبرة بشكل قوي عن صوت الحق وصوت التغيير والحرية والديمقرطية التي يسعى إليها أبناء النيل بحضارتهم العريقة على مر التاريخ، مشيرًا إلى أحد المشاهد التي لفتت نظره في تظاهرات التحرير وهي خروج البعض ببعض اللافتات التي تؤكد رغبة شعبية في العودة إلى زمن الفن والإبداع الجميل في شتى صوره ومنها اللافتة التي رفعها أحد المتظاهرين وكتب عليها “سخطونا من أم كثلوم لتامر”. انتفاضة القصيدة أما شاعر العامية ناصر دويدار فعبر عن سعادته لظهور الكثير من المشاركات الشعرية على أيدي شعراء جدد بالمئات على موقع “فيس بوك” الاجتماعي الشهير، وقال: تابعت بتركيز شديد مجموعة “شعراء 25 يناير” الذي أنشأه مجموعة من شباب الشعراء على “فيس بوك” ورغم أنني وجدت الكثير من التجارب التي لا ترقى لمستوى الشعر وفق قواعده المعروفة من وزن وقافية وما إلى ذلك من أساسيات كتابة الشعر، إلا أنني كنت سعيدًا في الوقت ذاته باتجاه الشعب نحو التعبير عن مشاعرهم باللجوء إلى فن القصيدة، فمثلما قامت انتفاضة شعبية على الأرض اندلعت انتفاضة مماثلة في القصيدة وشارك في صناعتها وصياغتها عدد هائل من الشعراء والراغبين في خوض التجربة باعتبار القصيدة هي الأقرب دائمًا من بين فنون الأدب الأخرى للتعبير عن المشاعر وبشكل سريع مقارنة بالقصة أو الرواية التي تتطلب وقتًا طويلًا لإنجازها في عمل أدبي. لذا أنا مع تجربة هؤلاء الشباب وأرفض التقليل من شأنهم أو شأن ما يكتبونه لأنه خرج في النهاية بروح إيجابية تستهدف التعبير عن الحرية والديمقراطية وربما تفرز السنوات القليلة المقبلة أسماء لامعة من بينهم حينما يداومون على كتابة الشعر واحترافه. لننتظر الشعر اللائق ويتفق معه في الرأي الشاعر رفعت سلام مؤكدًا أن هناك مدًّا شعريًّا قادمًا يوازي هذا المد الذي تشهده مصر حتى وإن بدت الكثير من هذه التجارب مجرد انطباعات عاطفية تفاعل مبدعوها مع الأحداث الدائرة، ومن هنا أظن أنه سيكون علينا أن ننتظر الشعر اللائق والإبداع الأدبي والفني عمومًا، الذي يتناسب مع هذه الثورة، وهو ما سوف تكشف عنه السنوات المقبلة والتي من الواضح أنها ستعيد المجد مرة أخرى إلى الشعر والقصيدة العربية عمومًا. تفاعل شعري ومهما كان الرأي والتقييم لمجمل النتاج الشعري الذي واكب هذه الانتفاضة، إلا إنه من المؤكد أن انتفاضة اللوتس المصرية فجرت شجون بعض الشعراء وخصوصًا الذين تعاطفوا مع المتظاهرين، فكتبوا قصائد طغت عليها مفردات مشتركة على شاكلة “ميدان التحرير”، و“ارحل”، حيث كتب شاعر العامية المعروف عبدالرحمن الأبنودي قصيدة “الميدان” التي تبادلها الشباب بينهم خلال الأيام الماضية على البريد الإلكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي واعتبرها البعض قصيدة الانتفاضة المصرية، حيث يقول الأبنودي في مطلع القصيدة: “أيادي مصرية سمرا ليها في التمييز ممددة وسط الزئير بتكسر البراويز سطوع لصوت الجموع شوف مصر تحت الشمس آن الأوان ترحلي يا دولة العواجيز عواجيز شداد مسعورين أكلوا بلدنا أكل ويشبهوا بعضهم نهم وخسة وشكل طلع الشباب البديع قلبوا خريفها ربيع وحققوا المعجزة صحوا القتيل من القتل” ولم يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة لشاعر الفصحى فاروق جويدة الذي تواصل مع المتظاهرين ومطالبهم خلال الأيام الأولى والتي لخصوها في كلمة واحدة وجههوها للرئيس السابق حسني مبارك وهي “ارحل” فخرجت قصيدة تحت نفس العنوان ويقول فيها: “ارحل كزين العابدين وما نراه أضل منك ارحل وحزبك في يديك ارحل فمصر وشعبها وربوعها تدعو عليك ارحل فإني ما أرى في الوطن فردًا واحدًا يهفو إليك لا تنتظر طفلًا يتيمًا بابتسامته البريئة أن يقبل وجنتيك لا تنتظر أمًّا تطاردها هموم الدهر تطلب ساعديك لا تنتظر صفحًا جميلًا فالخراب مع الفساد يرفرفان بقدميك”. أما الشاعر الشاب هشام الجخ الذي يمثل ظاهرة في ساحة الإبداع الشعري ويلتف حوله الشباب المصري آزروه للفوز في مسابقة أمير الشعراء المقامة حاليًا بالإمارات فدعا عبر قصيدته “مشهد رأسي من ميدان التحرير” إلى ترك القصائد القديمة والالتفات إلى قصيدة الإنجاز الذي صنعه شباب مصر نحو التغيير والديمقراطية وحرية الرأي فقال في مطلع قصيدته: “خبِّئ قصائدكَ القديمة كلها واكتب لمصر اليوم شعرًا مثلها لا صمت بعد اليوم يفرض خوفَه فاكتب سلامًا نيل مصر وأهلَها”. ويوجه حديثه الشعري إلى مصر داعيًا إلى انتهاء زمن الصمت فالشعب هو الآن سيد قراره وذلك حين يقول في مقطع آخر من القصيدة ذاتها: “لا تتركيهم يخبروك بأنني أصبحت شيئًا تافهًا ومُوجَّها فأنا ابن بطنِكِ. وابنُ بطنكِ مَنْ أَراد ومَنْ أقال ومن أقرَّ ومن نَهَى صمتت فلول الخائفين بجُبنِهم وجُموع مَنْ عَشِقُوكِ قالت قَولها”.