خرجنا أنا وعدد من الصحب إلى شاطئ بعيد نائي، ليس من أثر للضوء إلاّ ما شفّ عن بدر تلك الليلة، وهدوء حفيف الهواء في الماء هو أكثر الأصوات هيمنة، وبعد أن تجاذبنا ما استطعنا من الأحاديث خلا كلٌ بما في داخله، وانزوى عدد منّا للصيد. بعد أقلّ من ساعتين من الصمت، بدأ الضجر، وبدأت «الغلاسة» فيما بيننا، وبعدها بقليل كنا قررنا المغادرة بعد أن سبق واتفقنا على المبيت في نفس المكان. ما حدث بالضبط لدينا أن الأصوات الداخلية بدأت تتداعى، وأن ضجيجنا الداخلي كان أكبر من أن نصمّه عن آذان وعينا، لقد كانت أبصارنا وبصائرنا مليئة بالتلوّث الذي لم نستسغه في ساعات الصفاء والصمت تلك. إن تجربة الخلوات في الفلاة تكشف لنا عند صبرنا عليها مدى ما نحمل من الصور الداخليّة المتزاحمة، وهي تأجّج في أدمغتنا، ولا نستطيع فكاكاً منها أو انسلاخاً عنها، لذا فنحن نهرب منها إلى مزيد من الضوضاء، ومزيد من الازدحام الذي يشغلنا عنها، عن التأمّل فيها، وتحليلها، والخروج من بوتقتها، حتّى نستلقيّ كجثث هامدة ونلقي برؤوسنا على وسائدنا. قبل أعوام، قدّر لي أن أتجوّل في جبال سودة عسير، وتنقّلت أنا وزميل مصوّر وآخر دليل في متاهات الأودية والشعاب بحثاً عن رجل كان أسطورة رسمت لي قبل أن ألتقيه، وأصبح أكثر أسطوريّة بالنسبة لي بعد أن التقيته، فقد حكى لي الزملاء أن هذا الرجل هوايته صيد النمور!، ونسجوا حوله حكايات لا تصدّق، وبعد أن التقيته علمتُ أن ما قام به لا يصدّق فعلاً، ليس لأنّه كان يصيد النمور كما قيل، بل لأنّه استطاع أن يخترق عالمه الداخلي ويصل إلى مرحلة السكون، إلى قاع اليقين، إلى السلام الداخليّ. في عارض جبلٍ ضمن محمية «ريدة» يسكن الرجل وقد بلغ الثمانين إلاّ قليلا، عندما وصل الأربعين، وقد تزوج من زوجتين، وأنجب عدداً من الأبناء والبنات، قرر أن يغادر وضعه الاجتماعي طائعاً مختاراً، فانتبذ موقعا يبعد ثلاث ساعات من المسير على الأقدام في الجبال عن أقرب تجمّع أهليّ للسكان، وابتنى له بيتاً من دورين، رصّها وحده حجراً حجراً، وأنشأ له منحلاً صغيراً للعسل، وزرع قطعة أرض صغيرة بالخضراوات، وشقّ مجرى عين من الجبل، وهيّأ له مغتسلاً ومكاناً للصلاة، وجلب معه قطيعاً صغيراً من الغنم ليرعاه، وقرر أن هذه مملكته النفسية التي أصبح يغادرها كلّ يوم جمعة في الصباح الباكر ليصلّي الجمعة مع أهله ويتناول طعام الغداء، ثمّ يعود إلى مهجعة. كانت أسطوريّة هذا الرجل تكمن من وجهة نظري في قدرته على الفكاك من المستلزمات الذهنيّة التي تراكمت على نسق حياته، وصبره على هواجس نفسه وأزيز الأفكار المتجوّلة في وعيه، كيف يستطيع الإنسانُ في هذا العصر صبراً على الخلوة؟، كيف يمكن أن يتحمل هذا لساعات وأيّام فضلاً عن سنين بعد ذلك؟ ما لاحظته عليه أنّه كان بصحة جيّدة أكثر من أي أحد، ومشرقاً أكثر من أيّ أحد، وقويّاً في بدنه ونفسه. إنّ التلوّث البيئي الحالي، والتلوّث البصري والسمعي، إنّما هو مؤشر ظاهر على تلوّث أعمق وأكثر عصيانا على التحليل والفهم، وهو التلوث النفسي الذي يضرب بكل شراسة داخلنا دون أن نعيه، ولك أن تجرّب أن تختلي بنفسك بعيداً لثلاث ساعات فأكثر، فإذا صبرت على ذلك وتجاوزته فأنت تحقق إنجازا نادراً.