قبل سنوات قابلت أحد المتشددين في صالون حلاقة، قَدِمَ مع ابنه الصغير لحلاقة شعره، وعندما فرغت من حلاقة ذقني، وتخفيف شاربي بأقل درجة، وجدته ينتظرني، ثم أمطرني بالأسئلة حينها: لماذا، وكيف، وألم تسمع، وألا تتقي، وألا تخاف، وغيرها من الأسئلة المرعبة المتشددة. قلت له: الدين في القلب، وما تعمله الجوارح. وقلت له حينها إن القساوسة، وعدداً من أهل الديانات الأخرى يعفون لحاهم. وأكدت عليه أنني أعلم تماماً ما نص عليه الحديث الشريف من إعفاء اللحى وحف الشوارب، ثم أنهيت جداله البيزنطي بأنني أعرف ملتحين اتخذوا من اللحية «ديكوراً»، وسبيلاً لتحقيق مآربهم، وقلت له «شكلي هكذا يعجبني، ويروق لي جداً، وسأظل عليه ما قدر الله لي ذلك». وتركته، ثم اكتشفت وجود مثل هؤلاء، الذين يعتبرون الدين في لحية «كثة»، وقد يعفونها بشكل عشوائي، ويستغل بعضهم هذه اللحية في «الضحك على ذقون أخرى». لقد شاهدنا قوائم الإرهابيين، وفلول «داعش» المتخفِّين ب «لحى الضلال»، وليس الهداية. ورأينا في تسلسل مطاردة فلول «القاعدة» أنهم يستخدمون اللحية للادعاء بأنهم متدينون، ثم نجدهم منتحرين، أو مقتولين في جريمتهم، وهم حليقو اللحى. إعفاء اللحية سُنَّة عن نبينا الكريم، صلى الله عليه وسلم، ولكن بعضاً ممّن جمَّد قلوبهم التشدد، وعطَّل عقولهم التطرف، يرون أن حليقي اللحى هم مخالفون للدين، وعلمانيون، وكفرة وأشرار، وغير ذلك من الأوصاف، وكأن من شروط إسلام الرجل إعفاء اللحية، لكونها برأيهم «تدل على الالتزام والتقوى»، وهناك آخرون من هذه الفئات يربطون سلامة القلب، وتقوى الإنسان بمدى إطالة اللحية. يجب احترم الملتحين من شيوخنا ممّن تزيدهم اللحى وقاراً على وجوههم، التي يشع منها نور الإيمان والفضيلة، ولكني لا ولن احترم ملتحياً أطلق لحيته ليضحك بها على الناس، ويمارس دور الوصاية على الآخرين، أو مهمة الواعظ لهم، بينما هناك آخرون بلا لحية، ينالون درجة البروفيسور في الدراسات القرآنية، أو الفقه، أو الحديث، أو الشريعة. اللحية سُنَّة جميلة، ولكنها تحوَّلت في زمننا إلى شرط للالتزام، وعلامة تدل على التقوى، وأنا أعرف أشخاصاً من حليقي اللحى، خدموا الإسلام، وألَّفوا الكتب الدينية، وكانوا أهلاً للتقوى والسداد، وأعرف ملتحين دخلوا السجون في جرائم مختلفة، وآخرين تبيّن أن لحاهم لم تكن سوى لادعاء التدين، محوِّلين الإعفاء إلى ادعاء، لتسهيل أمورهم، والبحث عن «التمجيد الشخصي» من زملائهم، الذين سبقوهم في ذلك، وكلهم يسمّون أنفسهم شيوخاً، أو طالبي علم، بل تكون اللحية «علامة فارقة» في مجالسهم الخاصة. هل اطلع هؤلاء المتشددون على قلوب البشر للحكم عليها، وهل يشترط في سلامة القلب، وتقوى النفس وجود اللحية. إعفاء اللحية في وقتنا الحاضر بات علامة تحكمها ثلاثة أمور: فبعضهم يعفيها، وهم أهل للدين، ومن خاصة رجال التقوى، والله عليم بهم. وصنف يعفيها للادعاء بأنه متدين، ومنهم صغار السن، الذين يبدأون مشروع ال «إعفاء» مبكراً، في حين نجد أن بعضهم ينضمون إلى جماعات مشبوهة مثل: «القاعدة» و«داعش». وصنف آخر يستغبي الآخرين باللحية ليحصل على منصب، أو مصلحة دنيوية، أو قد يتوارى بها لينفذ مخططات، وجرائم مثل: الاختلاس، والرشوة وغيرهما من الجرائم، وسجلات الضبط في الجهات الأمنية تشهد على أرقام كبيرة عن جرائم هذه الفئة، الذين تم ضبطهم وقد أطلقوا لحاهم، وهم بذلك تحولوا من الإعفاء إلى الغباء عبر تمرير حيلهم عن طريق الشكل، والهيئة الخارجية، متخذين اللحية عنواناً عريضاً لذلك. يجب أن نفرّق بين هذه الفئات، وعلى الأسر أن تدقق جيداً في علامات الإعفاء المبكر للحية من قِبل أبنائها، فقد يكون ذلك «تأشيرة»، وانطلاقة للوقوع في حضن «داعش»، وغيره من التنظيمات، وعلى المجتمع ومؤسساته، أفراداً وكيانات، التفريق في هذا الأمر، فإعفاء اللحية إما يكون اقتداء بالسُّنَّة، وهذا أمر مبارك ومحمود، أو ادعاءً للتدين، أو لأهواء شخصية، أو انتماءً لتيارات معينة، أو «غباءً» للقيام بجريمة ما، أو لتحقيق مصالح شخصية على حساب الأنطمة. يجب أن يعي المجتمع ذلك حتى نتَّبع السُّنَّة في إعفاء اللحية، وأن يفرِّق بين أصحاب العقول النيّرة السائرين على الهدي النبوي، وأولئك القابعين في معسكرات الضلال، والمندسين في غرف الظلام، ويمارسون الضلال بلحاهم البائسة. يجب أن نعرف هذه التصنيفات، وأن نبحث جيداً في أعماق هذه الأشكال والهيئات، لنقارن بين الهيئة الخارجية والمضمون الداخلي، وملامح الوجه مع ما في القلب.