لم يكن هدفي قط حفظ كتاب الله، ولكنه تحقَّق على نحو غريب، أقصه للقارئ والمستفسر، فائدة للباحثين، وتذكرة للحافظين. أول سورة حفظتها كانت سورة (مريم)، أما سورة (المؤمنون) فكان حفظها في معتقل المخابرات العسكرية في القامشلي، قبل التقدم إلى امتحان البكالوريا بشهرين؛ فكاد الامتحان أن يضيع عليّ لولا لطف الله؛ فمكثنا في أقبيتهم أربعة عشر يوماً عدداً، فخرجت وأمامي 43 يوماً للامتحان؛ فنجحت وكنت الأول في المحافظة (الحسكة حيث يدور فيها القتال هذه الأيام). حفظت سورة «المؤمنون» برفقة الدكتور (عبدالجبار يوسفان)، الذي كان معنا معتقلاً هو طبيب مميَّز في البلدة حتى اليوم. وآخرها كانت سورة (يونس) على ظهر بناية (حسان جلمبو) (يسمونه في دمشق الملحق) الذي تخرج مهندساً لاحقاً، وانتهت حياته في جحيم تدمر على مابلغني؟ والدتي (جاهدة شيخموس وصفي) – رحمة الله عليها – كانت معجبة جداً بسورة مريم. ربما لجرسها الموسيقي. كانت تشجعني فأرسلتني لأخذ مواعظ دينية عند سيدة اسمها (زكية) إذا لم تخني الذاكرة. كانت امرأة بسيطة تقية دون علم. كنت في المرحلة الإعدادية (الصف الثامن = مايعادل الثاني إعدادي). كانت البرية والخلاء أصدقائي المقربين (نسميه الجول بتعطيش الجيم بثلاث نقط). وهكذا كانت أول سورة دخلت مستودعات الذاكرة عندي هي (سورة مريم). لم يكن يخطر في بالي ولا للحظة أن المشروع سوف ينتهي بحفظ كامل القرآن؛ لأكتشف في النهاية أن الحفظ هي المرحلة السهلة، ولكن (الحفاظ) على ماحفظ هي المرحلة الأصعب، فهناك كثيرون ممن حفظوا فنسوا؛ أو اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً. ثم تأتي المرحلة الأعظم مما مر وهي تدبر القرآن وفهم آياته وكلماته. بالمناسبة من أجل المحافظة على الحفظ يحتاج يومياً تكرار أربع ساعات؟ البارحة كنت أستمع لعالم شيعي (القبانجي) يزعم التجديد الديني، وهو يتكلم عن القوس والقاب، وأن القاب هو زاوية أو نهاية القوس. كان كلامه في موضوع القرب والبُعد. قلت هو ما أبحث عنه؛ لأن بعض الكلمات في القرآن الكريم يجب الوقوف أمامها. مثلاً الطير الأبابيل مامعناها بالضبط؟ هل هي طيور من نوع خاص؟ أم كناية عن الكثرة؟ مثلاً الكهف والرقيم؟ نعرف الكهف فماهو الرقيم؟ ثم لم نعرف شيئاً عن مصير الكلب بعد أن رجع السبعة إلى الحياة؟ وفي هذا الاتجاه هناك مئات المواضع في القرآن، تحتاج أن يُسلط عليها الضوء؟ بعد أن انتهيت من حفظ سورة مريم وفرحت والدتي بهذا الخبر، قلت لها إن حفظ (سورة البقرة) فيها حديث ينفع للوالدين، وهكذا توجهت لأعظم سورة، ولكن بعد المرور على سورة (فصلت). لم يكن حفظي بالترتيب أو من البداية للنهاية كما في معاهد تحفيظ القرآن؟ كانت سورة فصلت مقررة علينا في الصف التاسع (ثالث إعدادي). كان الجميل في السورة مقطع روعة عن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا كيف تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأنهم أولياء الله. هذه الصفحة من السورة أشجِّع فيها من يريد أن يزيد من حفظ القرآن، أن يركز على هذه الصفحة، وفيها دفع السيئة بالحسنة؟ ياحسرة على العباد. حين سمعت بما فعل (القباع) السعودي بشيعة الكويت، قلت إنه دفع الحسنة بالسيئة، على صورة مقلوبة لما جاء في القرآن. بعد تجربتي مع حفظ القرآن رأيت أمكنة تصلح جداً للتلاوة وبشكل مكرر ومؤثر، أما آية الدَّيْن والربا والميراث وما شابه، فهي أقرب للمتخصصين، كما ألفت النظر إلى أن (التورط) في حفظ القرآن دون فهمه، ولو بشكل بسيط، لايعني أكثر من نسخة مكررة للمطبوعات، كما نقل يوماً عن (محمد عبده) حين بلغه أن فلاناً حفظ كتاب الله، فعلق: زادت نسخ القرآن نسخة. أما الفهم والتفكيك والتحليل، بل واستخدام العلوم الإنسانية المساعدة؛ فهو شيء مختلف، ويعطي المعنى لماذا نزل هذا الكتاب المبين هدى للناس. حالياً طريقتي في التعامل مع القرآن أصبحت مختلفة، مثلاً على مدى أيام وأنا أقرأ سورة الرعد واكتشف أسرارها، وليست هي السورة الوحيدة، ثم إنني أكتشف كل يوم عديداً من يشكك في القرآن الكريم، أو أنه مفهوم على نحو مغلوط، ولعل أشهر من كتب على حد علمي من الوسط السني هو (الشحرور) ومن الوسط الشيعي (القبانجي) وقد كتبت حوله (الأخير) بحثا مطولاً أظنه من الصعوبة والحساسية أن تتحمل نشرة جريدة الشرق؛ فسيكون من حصة منابر أخرى. كلا الرجلين أي (الشحرور والقبانجي) اجتهدا وهو أمر مزكى ومبارك، وإن كان أسلوب الثاني لايخلو من السخرية، التي لا أظن أنها ستخدمه في اتجاهه، أما الشحرور فكان ملتزماً أكثر، وهو يقول كما قال أيضاً المصري (جمال البنا) أنه ليس ثمة نسخ في القرآن، ولكنه اعتمد أداة اللغة لفك مغاليق القرآن، ولا أظنه وصل إلى أساسات تفيد الضمير المسلم الحالي، باستثناء دعوته للمراجعة، كما فعل البنا المصري والقبانجي. وللحديث تتمة.