خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة يوم أُخرج منها وهو يقول: «إنك لأحب بلاد الله إلى الله، وأحب أرض الله إلي، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت»، وقال عن المدينة: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد». لاشك أن وطن الإنسان وترابه يعني له كثيراً، فهو منبعه وتراثه، وتاريخه وأمجاده، فيه عاش الأجداد وترعرع الأبناء، يكتنفه الماضي بحنينه، والمستقبل بجميله، فيه ألمه وفرحه فيه ترحه ومرحه، فيه يشتد قلبه، وتقوى نفسه، فيه يُسند ظهره بقومه، ويحصِّن نفسه بأهله. وقد قيل لأعرابي: ما الغبطة؟ قال: «الغبطة هي الكفاية مع لزوم الأوطان». أما البعيد عن وطنه ففردٌ في مكانه، تائه في آماده حيث لا عزوة ولا نصير، ولا صديق معين. وقد مر إياس بن معاوية بمكان فقال لمن معه: «إني أسمع صوت كلب غريب» فقيل له: «بم عرفتَ ذلك؟» فقال: «بخضوع صوته، وضعفِ نبرته، وشدة نُباح غيْره». فلا غرو أن نجد الشعراء والأدباء يتفننون في ذكر أوطانهم نثراً، ويتغنون به شعراً، وتصدح له ألسنتهم حباً وحنيناً وفخراً وعزاً.. فكما قال أبو تمام: كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبدا لأول منزل نقِّل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول ولله در شوقي القائل: وطني لو شغلتُ بالخُلْدِ عنه نازعَتني إليه في الخلد نفسي فالوطن في حقيقته ليس أرضا توطأ، أو رُغاماً يورّث.. بل علاقة حميمية بين روح في جسد وهو الإنسان وأصل هذا الجسد وهو التراب وبينهما من مشاعر الحب والألفة والحنين ما يحرك أطناب المحبين. ولاشك أن الأيام الوطنية لهذه الأوطان لها قيمة اجتماعية وتاريخية لما لتلك الأيام من ذكرى استقلال أو تحرير أو تتويج أو توحيد.. وإن مما لا شك فيه أن يومنا الوطني هو أعظمها وأجدرها بالتخليد من غيرها، ففيه وُحدت الجزيرة، وتوحدت الراية، وجُمع الشمل، وتوطد الأمن، وزال الخوف، ونمت الأمة، وعم الخير، وقصُر الشر، وأقيم الشرع، فما أروعها من وحدة وما أعظمها من نعمة وما أجمله من يوم. عرف قدره الأولون فما زالوا على النهج سائرين وعلى طريق الأئمة مقتدين، عرفوا معنى التوحيد والوحدة فجعلوا أيامهم كلها وطنية.. عملاً وبناء، تقدماً ورخاء فبلغوا القمة في أقصر مدة وأظهروا الجميل في أسمى حُلة، حتى خلف من بعدهم من لا يعرف للوطن غير اسمه فلم يعرف الأبناء ما قدمه الآباء من تضحية وفداء، وجهد وبلاء، فغيروا الوجه الجميل لهذا اليوم حتى ذبلت ملامحه وأظلم فجره وأنكر نفسه فلم يعد هو يوم الوحدة والألفة بل أصبح أشبه ما يقال فيه كسبت اليهود لنرى فيه ما لم يكن يعرفه الأجداد أو يألفه الآباء فلا هو لتجديد العهد ولا لبذل الجهد بل أصبح كقطر الندى وبل الصدى، فلا يشفي عليلاً ولا يروي غليلاً.. فيا ليت شعري كيف لنا لقياه ومن عهوده سلخناه ولمقصوده بدلناه.. فهل يا ترى حُرمناه، أم نحن من ضيعناه؟!