بعد أن نجحت في إرسال ما يقرب من ثلاثين شاباً سعودياً إلى ساحات القتال في الخارج، وفي محافظة لا يتجاوز عدد سكانها بضعة آلاف، تم إلقاء القبض على خلية التحريض في تمير!! هذا الحدث الذي يؤكد للمرة الألف أن وزارة الداخلية تتحمل بمفردها عبء تقصير الأجهزة الأخرى، كما يؤكد دور المواطن في الحفاظ على هذا الوطن وأهله، حيث كان لتعاون أهالي تمير مع الجهات الأمنية وإبلاغهم عن هذه الخلية وعن نشاط أفرادها دورٌ كبير في القبض عليها، وربما كانت الخسائر أقل مما هي الآن، لو تضاعفت يقظة الأهالي ولو كانت مبادرتهم قبل هذا الوقت، ولكن أن يصلوا متأخرين خير من أن لا يصلوا، وربما كان السؤال العريض الذي يجب طرحه بعد إعلان وزارة الداخلية عن القبض على خلية تمير هو التالي: كيف نجح مجموعة أشخاصٍ في تحويل أكثر من ثلاثين شاباً إلى دواعش في محافظة صغيرة يعرف الجميع فيها الجميع؟ وللإجابة عن هذا السؤال الموجع، يجب علينا أن نقرر في البدء، أن لدى كثيرٍ من شبابنا قابلية كبيرة للتحول من الحالة الإنسانية الطبيعية إلى الحالة الوحشية العبثية، هذه القابلية هي التي مكنت أصحاب هذه الخلية وغيرها من تجنيد آلاف الشباب وتحويلهم إلى إرهابيين دون مشقة أو عناء!! وإذا عرفنا سر هذه القابلية وتتبعنا مصادر تشكلها، فسوف نستطيع الإجابة على السؤال العريض، كيف نجح هؤلاء وغيرهم بجعل شبابنا وقوداً لمعارك شرق الأرض وغربها؟ ونعني هنا بالقابلية للدعشنة، الاستعداد الذهني والنفسي الذي يجعل شخصاً يتحول بين ليلة وضحاها من شخصٍ طبيعي إلى شخصٍ يتلذذ بحز الرقاب وقطع الرؤوس، وهذه القابلية لا يمكن أن تأتي من العدم، بل لا بد لها أن تتكون وتنمو مع الإنسان منذ مراحل عمره المبكرة، ثم تكمن في انتظار من يستغلها ويقطف ثمرتها، وهذا حال كثيرٍ من الدواعش السعوديين، والأسباب التي أدت إلى تكون هذه القابلية متعددة ومتنوعة، ولكن ربما يكون أبرزها ثلاثة أسبابٍ سنتناولها في هذا المقال. السبب الأول هو الخطاب الديني السائد لدينا في المجتمع، هذا الخطاب الذي ينضح بالحدية ويتباهى بالوثوقية المطلقة ويضيق بالمختلف، فهو خطابٌ لا يؤمن بمساحات العفو، ولا يعترف بإمكانية الخطأ، ولا يتخيل وجود مخالفٍ له، فكل مسألة من مسائل الكون لها حكمٌ شرعي واحد عند هذا الخطاب، وكل حكمٍ سوى ذلك باطلٌ وضلال، وكل مخالف لهذا الحكم فاسقٌ أو ضالٌ أو مبتدع، ومن هنا تبدأ دورة الشحن والتحريض، ولا تنتهي إلا في ساحات المعارك والفتن والدماء. ومن أكبر أخطاء هذا الخطاب إصراره الدائم على صبغ جميع الأمور والصراعات بصبغة دينية، ومحاولة حشر الدين في كل حدثٍ يحدث، وهذا التقييم الأيديولوجي للأمور جعل الناس مضطربين في وزنهم لما يحدث، فالواعظ البسيط الجاهل يتغلب على التحليل السياسي العميق، وعلى الشرح الاقتصادي الدقيق، لمجرد أنّه جعل الميزان دينياً بحتاً وإن كان الموضوع لا علاقة له بالدين!! ولذلك يبدو من الواجب على أصحاب هذا الخطاب أن يعودوا بخطابهم إلى مساحته الأصلية، وأن يكفوا عن استخدام الدين للتعبير عن آرائهم المريضة والمضحكة، كما يجب على الناس أن تكف عن هوس الاستفتاء والبحث عن أحكامٍ أمور ليست من الدين في شيء، فهذا الطابع الحاد لهذا الخطاب -بالإضافة إلى نجاحه في صبغ جميع الأمور بالصبغة الدينية- هو ما شكل المصدر الأول لتكوّن هذه القابلية البليدة للدعشنة، فمن يلبس كل أمر لباس الدين، ثم يملك حكماً قطعياً لكل أمر، ويعادي كل من خالفه في هذا الحكم، فهو جاهزٌ للدعشنة وما شابهها. أما السبب الثاني لهذه القابلية فهو غياب المدارس الفلسفية والمناهج النقدية في حياة المجتمع السعودي، ولعمري ما أفلح قومٌ بارزوا الفلسفة وعلوم العقل والمنطق بالمحاربة، وجعلوها بضاعة كاسدة، وكما قال المعري رحمه الله: هذا الغياب لمفهوم الفلسفة والنقد والمناهج التجريبية هو الذي جعل كثيراً من أفراد المجتمع ينساق خلف الجهل والخرافة، ويكون هذا الانسياق في أكمل صوره حينما تتدثر هذه الخرافة بلباس الدين، إلا أن هذا الانجراف وراء الجهل برز في مواطن كثيرة لا علاقة لها بالدين، كما حدث في أوهام مطاردة الثراء السريع عن طريق المساهمات وسوق الأسهم، وكما حدث في قضية ماكينة سنجر وغيرها من الحوادث التي تدل على غياب العقل الناقد والمتسائل، فالمجتمع الذي يعلي من شأن الحفظ والتلقين في مقابل الفهم والتجربة ومدرسة البرهان، هو مجتمع قابل للانجراف وراء كل دعوة مهما بدت ساذجة وسخيفة، ولذلك على هذا المجتمع أن لا يبدي الدهشة والاستغراب في كل حادثة ينجرف خلفها جزء من أفراده، فمحاربة الفلسفة والمنطق لن تنتج لنا سوى قطعان يمكن سوقها، وهذا أمر خطير لا ينبغي القبول به ولا المراهنة عليه في تطويع الناس وترويضهم، مهما بدا الأمر مغرياً لبعض مراكز القوى والتأثير، فهو سلاحٌ ماضٍ في يد كل من يحسن استخدامه. أمّا غياب مناشط الترفيه وتفريغ طاقات الشباب، وعدم شعورهم بأنّهم جزء من صناعة مجتمعهم وواقعهم، وإحساسهم بالغياب التام عن مشروع الوطن التنموي، فهي ثالثة الأثافي في موضوع القابلية، فهذا المجتمع الذي تشكل فئة الشباب العمرية ما يقرب من 60% من أفراده، هو المجتمع الوحيد في هذا الكوكب الذي لا يوجد فيه مسارح ولا دور سينما ولا مراكز رياضية تحتوي شبابه، كما لا يوجد به فعاليات فنية أو ثقافية حقيقية، ولا يوجد به مرافق سياحية أو ترفيهية، وغياب جميع هذه المناشط والفنون هو الذي خلّف فراغاً هائلاً في أرواح الناس، مما جعلها تصاب بالتصحر والتبلد، وهذه هي الأرضية المثالية لنمو القابلية وبروزها، ولذلك علينا أن نكف عن الرضوخ لرغبة بعض الأشخاص الذين نجحوا في شيطنة كل هذه المناشط وتحريمها، بينما يقضي هو وعائلته إجازاتهم في الغرب والشرق بحثاً عن هذه المناشط وما توفره من البهجة، وهنا يأتي دور أجهزة الدولة في تبني خيار الوسطية والانفتاح والبدء بوضع نواة هذه المناحي الترفيهية لتفريغ طاقات الشباب واحتواء فورتهم وعنفوانهم، أمّا مواصلة الرضوخ للفكر المتشدد والتحريم الذي ما أنزل الله به من سلطانٍ فلن ينتج لنا سوى مزيدٍ من الأشخاص القابلين ل«الدعشنة» و«الدربنة». الخطاب الديني الذي يحتاج للمراجعة والإصلاح، والمناهج الفلسفية والنقدية التي ينبغي حضورها وتكثيفها في المجتمع، والمجتمع الذي يوفر جميع خيارات الترفيه المباحة ويستوعب طاقات الشباب وعنفوانهم، هذه الأمور الثلاثة التي ستحول دون مواصلة تناسل الدواعش والإرهابيين، ما سوى ذلك هو حوم حول الحمى ومواربة وقتية، وترحيل ساذج للأزمة، وكل ذلك لن يبلغ المأمول ولن يحقق المبتغى.