أذكرك عزيزي القارئ أن الموضوع ومن الجزء الأول أطرحه تحت مظلة المشروع الطبي ثلاثي الأضلاع «إتقان/ حقوق/ أخلاقيات»، ومن المهم التذكير أن الاختلاط لا تنحصر إشكاليته -إن وجدت- في المرأة بل الرجل شريك أيضا، كما أن المرأة متدرجة التأثر والتأثير في بيئة المستشفيات ومن الخطأ قصر الموضوع على فئة الطبيبات، بل الأمر شامل للمرأة عاملة النظافة مرورا بموظفة الاستقبال بل يتعدى إلى المرأة المريضة. وللاختلاط بعد ثقافي وآخر اجتماعي وثالث أخلاقي. وسأناقش في هذا الجزء البعد الثقافي، وهو مرتبط بظهور المرأة في مجتمعنا في الفضاء العام وهو متعلق بجسد المرأة أو بالحجاب كحالة هوية ثقافية وليس كحكم فقهي فقط. أتجاوز -مقرا- فكرة خروج المرأة للمجتمع وأتجاوز -مقرا- الخلاف الفقهي حول كشف الوجه ولننطلق من جواز النقاب والكشف ومن أهمية حضور المرأة في المجال الطبي فأين يكمن الإشكال؟ ينتقد كثيرون السلوك الذي تمارسه بعض العاملات -تحديد حجمها يحتاج إلى دراسة علمية- التي تخالف الشرع بإظهار الشعر أو جزء منه وبوضع الماكياج واللبس الضيق أو القصير. هذا الظهور يمثل ثقافة الصورة أو «الشرط البصري» الذي يفرز تصورا يحيل إلى ما بعده. يقود التصور الأول من سميتهم في المقال الأول منافقي القضايا، الذين يرون في مثل هذا الطرح تسطيحا وعداء للمرأة ويحومون حول مفاهيم الحرية والتحضر ثم تجدهم محافظين جداً حيال أهليهم ومحارمهم. ويقود التصور الثاني من يتجاوز تخطئة الفعل إلى الحكم على المرأة المخطئة بالفساد والانحلال وهؤلاء متأثرون بعقل جمعي ينحاز لثقافة «العار» على حساب ثقافة «الذنب»، وكلا الفريقين قد خرج على الضوابط الشرعية في مقاربة الأمر. «الزي» للمرأة والرجل في السياق المهني الصحي عنصر من الضوابط المؤسسية للعمل، لذا فإن مخالفته تعد إخفاقا أو خللا إداريا لا بد من فيه من العودة إلى النظام الإداري لتصحيحه بعيداً عن كل التدخلات التي تحمل في ثناياها أجندة أو اجتهادات تمثل أصحابها. ولأن النظام الإداري في وطننا تهيمن عليه الشريعة، فإن تعاميم وزارة الصحة واضحة حيال ضوابط الزي المهنية والشرعية وينقصها التطبيق فقط الذي يمتنع أحيانا لأسباب ليس هنا مجالها. أما المستشفيات خارج وزارة الصحة بما فيها القطاع الخاص فإنها بحاجة إلى مراجعة أنظمتها حيال الأمر حتى لا تقع المرأة طالبة العمل للابتزاز الإداري والقهر الثقافي. إن انضباط العاملين والعاملات في المجال الطبي بالزي الصحيح حق من حقوق المريض السعودي الذي يستحق العلاج في وطنه وفق ثقافته المعلنة، كما أن ذلك كفيل بخلق بيئة مهنية بعيدة عن التشتيت المهني وقلق الهوية، وذلك سيمهد ويكرس الإعلاء من قيم الحفاظ على خصوصيات المرضى الجسدية باعتباره أدبا ومهنة في ذات الوقت. إن العملية الطبية بكل أبعادها خاضعة للطوارئ والاستثناءات وهنا يجب تقدير كل حدث وفق معطياته دون الاستعجال في إطلاق الأحكام على الناس. هذا وفي الأسبوع القادم حديث عن البعد الاجتماعي للاختلاط.