لن يكون من واجب هذا المقال المتسلسل الوصول إلى حكم نهائي حيال الاختلاط في القطاع الصحي، بل سيهتم بالأمر من زاوية مختلفة ربما أنها لم تطرق بعد. من المهم البدء بتقرير أكبر إشكاليتين تعاني منهما النخب حين مناقشة قضايانا، الأولى هي التعالي على القضية والثانية منافقة القضية!. التعالي على القضية يمكن اختصاره في إطلاق الأحكام دون اقتراب متواضع من الواقع حين يصبح الاختلاط محرماً من فئة وواجباً عند فئة مقابلة. ولعل هذا التعالي يعكس أحياناً حالة نفسية تتلبس بلبوس الثقافة والفكر. أما نفاق القضية فهذا جلي في كثير مما يتعلق بالمرأة في مجتمعنا وهو أيضاً حالة عملية تصيب الطرح في مقتل. مذ كنت طالب طب في التسعينيات الميلادية وأنا أسمع كثيراً من الآراء حيال اختلاط المستشفيات وظلت كثير من الأفكار تراوح بين الاستعلاء على الواقع وبين الفصام الفكري ليظل واقع المستشفيات كما هو متبختراً بإفرازه المهني والاجتماعي والأخلاقي. إنه لمن الضروري الوعي بأمر في غاية الأهمية حيال الطب الحديث حيث إنه منتج غربي بكل توابعه المؤسسية والمهنية والثقافية، ولقد كان الحراك منصباً منذ سنين على تعريب الطب كموقف عربي إسلامي حيال الهزيمة العلمية والحضارية في الميدان المعاصر، ولم يلتفت القائمون على هذا الأمر إلى ما هو أولى متمثلا في 3 قيم رئيسة هي إتقان المهنة -بكل أبعادها الطبية والفنية المختلفة والإدارية- وقيم حقوق المرضى وأخلاقيات المهنة. نعاني في واقعنا الطبي المحلي من فشل كبير في الإتقان والحقوق والأخلاق ولو تمت المعالجة الجدية لهذه القيم وتكريس ثقافتها من وحي المرجعية الإسلامية لربما كنا نتحدث الآن عن شأن آخر غير الاختلاط. أمر آخر تجدر الالتفاتة إليه في ظل الظروف شديدة الخطورة التي تحيط بنا وبوطننا المتمتع بمكتسبات كثيرة تجب المحافظة عليها، هذا الأمر هو محاولة تحقيق (السلم الاجتماعي) عند مناقشة القضايا دون تحريض أو اتهام أو إقصاء أو سوء ظن، ويمكن تحقيق الجدية والشفافية في المعالجة دون الحاجة لعوامل التفرقة هذه متى ما كان أسلوبنا هادئاً وعلمياً، ومن هنا فإني أرسل التحية لزميلاتي وزملائي في ميدان المستشفيات، وأقول لهم إن نجاح أي ناقد في مقاربة واقع متشابك مثل القطاع الصحي يكمن في التفريق بين (الذاتي) و(الموضوعي) لذا عليهم استيعاب نقدهم بطريقة إيجابية من قبل أي طرف يتعرض لهم حيث إنه يكون عادة أسيراً لفكرة مسبقة أو لنظرية المؤامرة أو للخبرات الخاصة وكل هذه أعباء تسير ضد نجاح مشروع النقد. دعونا الآن نحوم حول سؤال حرج عن علاقة المستشفى بالمجتمع في واقعنا، فهل المستشفيات جزء مكثف من المجتمع تنطبق عليه ذات القواعد عند حل المشكلات أم إنه عالم خاص له قوانينه المستقلة؟ ويصياغة أخرى هل واقع المستشفى صانع مستقل لسلبياته أم إنه يعكس سلبيات البيئة الأوسع؟ هل يحق له ما لا يحق لغيره؟.. للحديث بقية.