«سجل برأس الصفحة الأولى/ أنا لا أكره الناس/ ولا أسطو على أحد/ ولكني إذا ما جعت/ آكل لحم مغتصبي/ حذار حذار من جوعي/ ومن غضبي..» (الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش) في زمن الفرجة على القتل نستعين بالشعر الذي برع فيه العرب. شعر يحاكي نكبتنا ونكستنا ومجازرنا الممتدة من البحر إلى النهر، نتداول على وسائل التواصل الاجتماعي بعضا من حالة الهلع والخوف التي تنتابنا.. نتحسس رقابنا التي قطعت ونطمئن على الرأس الذي لم يعد يحتمل أو يستوعب ما يحصل من سلاسل المجازر المتوجة بشي أطفال فلسطين بعد تجويعهم وهم يحتمون بمدرسة بنتها الأنروا التابعة لهيئة الأمم، بينما نحزن لمصير الجارية التي ساقها حظها لتكون هدية الخديوي للسلطان دون أن يخطط أحد لمصير العشيقة الطامحة للسيطرة على سيدها. صرنا نهرب من الأخبار كي لاتعرينا وتكشف زيفنا، وتسمرنا تحت الشمس مكشوفين من كل غطاء، فقد كشف الغطاء ولا أحد قادر على إعادة الرداء إلى الجسد غير القادر على الوقوف من شدة الذل والعجز والهزيمة من الداخل. كأن الأمة بلا تاريخ، وبلا ضمير وبلا إحساس. وهكذا يتجسد الشعر ليصفعنا علنا نفيق من الحال الذي وصلنا إليها، وليس أجمل وأفجع من شعر فلسطين محمود درويش، حين يحذر بأن المقبل أعظم ولكن أحدا لم يفهم ما حذر منه، وهو يحكي عن الحصار والجوع والصمود: «حاصر حصارك.. لا مفرُّ/ سقطت ذراعك فالتقطها/ واضرب عدوك .. لا مفرُّ» وفي مقطع آخر من القصيدة: سقط القناع عن القناع عن القناع،/ سقط القناع/ ولا أحدْ/ إلاك في هذا المدى المفتوح للنسيان والأعداء،/ فاجعل كلّ متراسٍ بلد/ لا.. لا أحدْ». *** حتى يوم الأربعاء الماضي، بلغت المجازر التي ارتكبها الكيان الصهيوني في غزة 55 مجزرة، وفق ما رصدته وسائل الإعلام والفضائيات، وبلغ عدد الشهداء 1360 شهيدا ربعهم من الأطفال، وأكثر من 7000 جريح، وهدمت أحياء بأكملها على من فيها، ويصر الكيان على استمرار مجازره اليومية وقتل مزيد من الفلسطينيين الذين يدافعون عن شرف الأمة المنكوبة التي تشاهد أنهار الدم دون أن تحرك ساكنا. بالضبط كما فعلت مع الحصار الذي فرضه الكيان بدعم أمريكي وغربي وتبرير المجازر تحت يافطة «حق الدفاع عن النفس»، بينما يحرم الفلسطيني الذي تحتل أرضه الأقدام الهمجية، من الحصول على حق الحياة كأي شعب له الحق في دولة مستقلة بلا غزاة ولا نازيين جدد ولا حصار على الماء والهواء والعمل. لكن هذا الكيان قد أمن العقوبة، فواصل مجازره منذ تأسيسه على أرض فلسطين في العام 1948، حيث يسجل التاريخ الفلسطيني مجازر دير ياسين وكفر قاسم وغيرها، من المجازر التي ارتكبتها عصابات شتيرن والهاغانا الصهيونية، بقيادة زعماء الكيان الذين رحلوا والحاليين الذين يواصلون ارتكاب المجازر في العصر الراهن، وكأن التاريخ لم يتحرك، أو أن العالم خلا من وسائل وقوانين محاسبة مجرمي الحروب. هذا العالم الأصم تجاه مجازر الكيان لايزال يخرج موتى المجازر التي ارتكبها النازيون إبان الحرب العالمية الثانية، لكنه لا يلتفت إلى قتل الأطفال وهم يلعبون على شاطئ غزة. فالحماية الغربية تمنع أي مساس بهذا الكيان المزروع في جسد الأمة منذ 66 عاما أسهم في تخلفها، وخلق وقائع جديدة يريد من ورائها قيادة أمة كانت عظيمة بحضارتها وتقبلها للرأي الآخر، بل والتلاقح مع الافكار المؤسسة للنهضة والحداثة، بينما نجد اليوم الوجه الآخر للعملة المتمثلة في داعش وأخواتها، حيث يمارس القتل على الهوية المذهبية والدينية في العراق وسوريا وليبيا وتونس ومصر مثلما يمارسه الكيان من قتل ضد الفلسطينيين أصحاب الأرض والحق. يكفي أن يكون الحصار الذي تعرضت ولا تزال تتعرض له غزة سببا في رفع دعاوى أمام المحكمة الجنائية الدولية ضد الكيان الصهيوني. وقد فعلها وفد حقوقي دولي من أمريكا الشمالية وأوروبا وأمريكا الجنوبية والشرق الأوسط في العام 2008، حيث وجهت للكيان وكبار قادته تهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب إبادة جماعية ناجمة عن الحصار المفروض على القطاع. ومن بين الذين رفعت عليهم الدعوى رئيس الوزراء السابق إيهود اولمرت ووزير دفاعه إيهود باراك ونائبه ماتان فانائي ووزير الأمن الداخلي آفي ديختر ورئيس الأركان غابي اشكنازي. بعد رفع الدعوى، وبدلا من تفاعل العالم معها والدفع بها لتأخذ العدالة مجراها، تمت التغطية على الكيان وقدم له الدعم المالي المستمر بعشرات المليارات من الدولارات من جيوب دافعي الضرائب الأمريكيين.. بدلا من ذلك قام الكيان بعدوان العام 2012 واستمر في حصاره قطاع غزه لنصل إلى هذا العدوان الذي يعتبر الأكثر توحشا والأكثر رغبة في قتل الأطفال والنساء والمدنيين، ذلك أن التغطية لم تعد أمريكية غربية، بل أصبح الصمت العربي جزءا من الغطاء الغربي، وفي أحيان كثيرة عدم تحرك الأممالمتحدة في الدفاع عن شعب يتعرض للإبادة الجماعية. والكيان بهذا الفعل يؤكد طبيعته الإرهابية والعدوانية التي اتسم بها منذ تأسيسه على أرض فلسطين. يشير تقرير مؤشر الإفلات من العقاب الصادر في إبريل 2014 أن الإفلات من العقاب «يشكل بيئة مناسبة لتفريخ العنف»، وهو الأمر الذي ينطبق على الكيان الذي لم يعاقب على أي جريمة ارتكبها منذ تأسيسه، بل إنه أمعن في جرائمه وزاد منها في لبنان منذ احتلال الشريط الحدودي عام 1978 وغزو بيروت في 1982 وعدوان 2006 على الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت وصولا إلى العدوان على غزة لأكثر من أربع مرات، فضلا عن الحصار. بعد قرابة شهر من العدوان الصهيوني على غزة يعلمنا أطفال فلسطين في غزة «أن الحياة وقفة عز»، وأن الانتماء يكون بالولاء للأرض والوطن والدفاع عنه رغم كل الدماء التي تسفك. أما فاقدو الهوية والانتماء والحياء فهم لا يدركون معنى التضحية من أجل الوطن. غزة اليوم تقاوم بأجساد أبنائها وكأنها تطبق وصية محمود درويش، وستتم محاكمة الغزاة والنازيين الجدد رغم آلام الحاضر وتضحياته، فهم لن يمروا بجرائمهم مهما طالت السنوات التي يهربون فيها من وجه العدالة.