يبدو أن تحول بعض القنوات الأمريكية إلى نسخة من الجزيرة، في مؤشر واضح إلى حقيقة أنه لا حياد في الإعلام، وأنه في نهاية المطاف يعمل وفق أجندة تخدم مصلحة الكيان الحاضن. دعونا نعود بالذاكرة إلى الوقت الذي خرجت أعداد غفيرة من الشعب المصري تفوق تلك التي خرجت ضد مبارك، وتدخل الجيش لتصحيح مسار الثورة المصرية كيف وجدنا تلك الوسائل الأمريكية تصف الحراك التصحيحي بالانقلاب ضد الرئيس المنتخب، (رغم ما كشفته الأحداث من عملية تزوير للانتخابات ورضوخ المجلس العسكري آنذاك لتهديدات الإخوان التي خرجت من ميدان التحرير بحرق القاهرة)، وما زال بعض تلك الوسائل يصفه كذلك حتى اللحظة. وعندما خرج بضعة آلاف في أوكرانيا وأثاروا الشغب واستولوا على السلطة من الرئيس المنتخب تعاملت تلك الوسائل الإعلامية الأمريكية مع الحدث على أنه ثورة. المشكلة ليست هنا بل في ترديد ما يرد في تلك الوسائل والاستشهاد بها حينما يريد بعضهم أن يدعم موقفه من حدث ما، مبتعداً عن وسائل أخرى أكثر حيادية، أو فلنقل أكثر مهنية تغطي الجانب الآخر من الحقيقة. ولكي نكون أكثر تحديداً فالمشكلة تكمن في بعض الأصوات التي تتماهى مع التوجه الأمريكي وتعمل لصالحه بشكل مباشر أو غير مباشر. وبصرف النظر عن ماهية الحدث وعما إذا كان غزواً أم لا، وفيما إذا كان تدخلاً صريحاً أو موارباً، فلا ينبغي أن نضع هنا غير الحقائق المجردة كما هي، لنعلم فقط كيف أن بعض الأصوات لا يهمها سوى أن تكون بوقاً للبيت الأبيض وتعمل بعلمها أو بدون علمها، لخدمته بالوكالة. التاريخ الروسي الأوكراني معقد ومتخم بالشد والجذب. والروابط بين البلدين متعددة ولعل أهمها الإثنية الروسية في أوكرانيا والعوامل الإقتصادية والعسكرية التي تحكم طبيعة العلاقة الحالية بينهما. ففي الوقت الذي تمر فيه خطوط النفط والغاز الروسي تعتمد أوكرانيا على 70% على الغاز الروسي من احتياجها كما تعتمد على 80% من احتياجها النفطي على النفط الروسي، إضافة إلى أن دخل أوكرانيا من السياحة يعتمد على السواح الروس. هذه الحقائق الاقتصادية تشير إلى أن بإمكان روسيا خنق أوكرانيا وترويضها دون الحاجة إلى أي تدخل عسكري. الحقيقة الأخرى التي لا ينبغي أن تغيب عن أذهاننا اتفاقية عام 2010 الروسية الأوكرانية لتأجير القاعدة البحرية لروسيا لمدة 25 سنة التي منحت الشرعية الوجود الروسي في عاصمة القرم سيناستابول، بل في أوكرانيا. سيناستابول تعتبر ومنذ ما قبل الاتفاقية موطناً للبحرية الروسية وفيها أضخم قاعدة عسكرية روسية بحرية تضم أكثر من 25000 ألف عسكري روسي. إضافة إلى وجود الأسطول الروسي على بعد كيلومترات في البحر الأسود، مما يعني أن الجيش الروسي ليس في حاجة للتدخل في القرم لأنه موجود هناك أصلاً، إضافة إلى أن هناك اتفاقية سابقة (كما تدعي روسيا) تمنح موسكو الحق في تحريك قواتها داخل أوكرانيا. حقيقة ثالثة تكمن في أن شرق وجنوب القرم وعاصمتها، يعتبرون أنفسهم روسيين أكثر من كونهم أوكرانيين، فالجنود الذين تمت الإستعانة بهم لقمع المحتجين كانوا في معظمهم من القرم، واحتفى بهم السكان وعاملوهم كأبطال عند عودتهم رغم فشلهم في قمع الأحزاب اليمينية، التي استولت على أسلحة الشرطة في العاصمة الأوكرانية كاييف، وأصبحت مصدر تهديد لمواطني القرم الذين يرون في الوجود الروسي حماية لهم. الحقيقة الرابعة أن موقع أوكرانيا الاستراتيجي ووجود خمس محطات نووية و15 مفاعلا نوويا يجعلها في غاية الأهمية لموسكو التي ستعمل جاهدة على تفادي حدوث فوضى في أوكرانيا. الحقيقة السادسة أن الرئيس الأوكراني السابق رفض جميع المحاولات لإدخال القيم والمبادئ الغربية إلى بلاده وفضل أن تبقى بلاده على القيم الروسية. الحقيقة السابعة أن روسيا يمكنها التعامل مع أي حكومة أو رئيس حكومة أوكرانية إلا أن يكون ذا ميول غربية. كما أسلفت، لا يعنينا مرحلياً، تصنيف الحدث على أنه تدخل أو غزو أو أنه لا هذا ولا ذاك، بقدر ما يعنينا تبعاته في ظل التوجه الأمريكي وجوقة اللاعبين لمصلحته. وبالتالي وأمام هذه الحقائق يمكننا تصور طبيعة الأزمة ثم يحق لنا أن نتساءل. ببساطة شديدة الأوركسترا التي وجدت في الخريف العربي، أداة ووسيلة جيدة لإثارة الفوضى، ثم ركوب الموجة الثورية والتسلق إلى السلطة لم تتأخر في التماهي مع تقارير راند، في مقابل ذلك الدعم الذي تجده من البيت الأبيض. هذه المرة ستكون اللعبة على اعتبار الموقف الروسي من أحداث مصر ودعمها للحركة التصحيحية وموقفها من ترشيح خصمهم الأول المشير السيسي للرئاسة مما يحيل الدب الروسي إلى هدف مشروع لمنظريهم وشركائهم في الخليج. لذلك فالمتوقع منهم، وحسب آلية وطريقة عملهم في حالات سابقة، البدء بعملية تجييش منظم ومتسارع يعتمد على تاريخ المسلمين في القرم ولا بأس ببعض صور الاضطهاد وغيره مما يساهم في تسريب بعض الشباب للقيام بعمليات عسكرية لصالح البيت الأبيض، تحت حجة نصرة مسلمي القرم، والحديث هنا عن أعضاء التنظيم الدولي في بعض الدول الخليجية، فلا أعتقد أن أحداً منهم هنا يستطيع أن يرتكب حماقة كهذه بعد الأمر الملكي بتجريم التحريض. حينما ذكرت في البداية عدم حيادية الإعلام، أردت التأكيد على أن بث معلومات مضللة، أو على أقل تقدير غير مكتملة، أحد أهم خصائص الإعلام الذي يعمل على الحشد وتكوين رأي عام ينساق خلف مبادئ وقيم إنسانية في ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب. وهذا الأسلوب المراوغ في تقديم المعلومة الذي يؤدي إلى التضليل يمارسه منذ سنوات إعلام التنظيم الدولي للإخوان بكل الوسائل المتاحة له سواءً الفضائية منها أو الوسائل الساخنة والباردة أو وسائل التواصل الاجتماعي، التي تعتبر ساحتهم الأبرز الآن. دعونا نتابع فقط وسنرى. اليوم هو الإثنين، وخلال الأيام المقبلة وتحديداً إلى حين نشر المقال سنرى مدى صحة هذا التوجس المبني على قراءة آلية عمل هذه الجوقة الإخوانية خلال السنوات الثلاث الماضية. فإن لمسنا انسجاماً مع الإعلام الأمريكي الموجه وبداية للتجييش والشحن فليكن سؤالنا هو لماذا الآن وفي هذا التوقيت؟ وما الذي استجد على إخوتنا هناك ليحدث هذا الدفع العاطفي؟ ثم لماذا لا يعمل هؤلاء إلا وفق ما تقتضيه المصلحة الأمريكية؟ الأهم هو لماذا يعمل هؤلاء على إدخال المسلمين، وتحديداً الشباب الخليجي، في خط المواجهة المباشرة في خلاف بين قوتين سيوجه كلاهما سهامه إلى صدورهم ذات صباح قريب في القرم، متى ما دخلوا في خط الصراع القائم؟ ما يجب الإشارة إليه لمزيد من التأكيد على ما سبق، أن وتيرة التجييش مرتبطة بدرجة ارتفاع حدة الموقف الأمريكي، فإذا اشتد خلال الأيام المقبلة التي تسبق النشر واللاحقة له سترتفع الوتيرة، وإذا خفت حدة الموقف الأمريكي تلاشت دعوات الحشد والتجييش. وإن غداً لناظره قريب.