يا طفلة الشمال من أخبرك بأن النوارس البيض تبكي عليك، وأن الصباحات تُمزق أقمصتها استعجالاً لخيوط الشمس كي لا يحاصرك الظلام، وأن الرياح الشمالية تحمل أكفاناً من الحزن، وأن أوردة الأرض شاحبة لما حدث، والقمر البهي يواري وجهه خلف غيمة كي لا تطالع السوسنات الواجفة بكاءه المحموم، وطفلي الصغير يشق أغصان الكلام كي يستطلع نجمة وسنى يطارحها السؤال عما يحدث وعما حدث، هل عصفورة مغردة قابلتك ذات صباح فاجع وخاتلتك لتمضي في دروب مضنية نحو الغياب؟ هل سحابة غررت بك لتحدقي في ملاءة السماء؟ لتتعثر قدماك الصغيرتان لتصبح حكايتك دمعة حمراء تحملها الرياح ويلفها الغبار وترتكن قصة ألم بين أضلع السامعين. هل حلم وردي لمع كوشل جبلي موشى، لتذهبي إليه خلسة كي لا يستيقظ الفجر؟ قالت الرياح الشمالية بأن لمى اختارت غيابها حيث سارت بين أضلاع الجبال واستقرت في قاع بئر تجللت بالأحزان، اختارت هذا الطريق لأن الله أراد لها ذلك. دميتها رفيقة دربها حكت وقالت بصدق: لمى كانت تبحث عن زهرة نضرة لتشاطرها الفرح وعاهدت نفسها بأن توثق المشهد الطبيعي بمراسمها الخشبية الملونة على صفحات كراستها، كانت تود استنطاق أكمام الأزهار وتستمع لشدو العصافير وترهف أذنيها لصوت خرير المياه الشفيفة، لترى ما شاهدته في الطبيعة البكر على مرآة صقيلة، تراه في ملامح وجهها حين تطالعه بتمعن في الصباح قبل ذهابها إلى روضتها، ومضت.. ومضت لمى في هزج كنحلة ذهبية تتوق لأن يكون شهدها صافياً مشافياً، ومضت بين مسالك الجبال، تتعثر فوق أسنان الحجارة الصماء، وجاء القدر.. وجاء القدر.. ثمرة قلبي «محمد» لم ينم كان كغيره من ثمار القلب في وطننا الكبير، يستطلع الأخبار ويسأل عما يجري وجرى، رأى في أحلام يقظته طفلة شمالية اسمها لمى تقهقه كوردة نضرة مر عليها الندى، تمنى أن ما تسوقه الألسن وينشره الإعلام مجرد حكايات فقط، تصوخ أذنه عن فاجعات الخبر.. في ذات مساء حزين قال: أبي لماذا اُغتيلت طفولة لمى؟ لماذا الأرواح الشفيفة يحاصرها الظلام في وضح النهار؟ وكان سؤاله جارحاً حاداً كسن رمح يستبيح الدماء في معركة ضارية، تلولب سؤاله البريء في صحن أذني تاركاً ضجيجاً، وتسرب كالماء كالهواء بين أصابعي التي أعياها المصاب، وكان قاموس إجاباتي قد تخشب فلم أستطِع أنبس بكلمة، لقد اعتراني جليد الفاجعة وغدت ذاكرتي كفضة عتيقة نسيها الوقت وغطّاها السواد. انتظرت برهة كي أستعطف وأستنطق لساني فأبى، فأدركت أني كتلميذ حاول إدلاق حروف معلوماته وخارت ذاكرته، بعدها لذت بالصمت المريب في أعقاب تأتأة بالكلمات المبهمة، فأنقذتني دمعتاه اللتان تحدّرتا من مقلتيه المحتقنتين، أدرك بفطنته أني عاجز عن الإجابة، ضممته بود وكان وكنت وقتها بائسين كغصنين غادرا جذرهما فاستحالا يباساً. الطفلة الشمالية ما زالت في غياهب البئر، لا لا لم تعد، لم تكتحل الأرض بعطر عودتها. لم يستشرف القمر ببهاء طلعتها. لم ترفرف القلوب ببهجة ابتسامتها. وقال بنبرة باكية: لو كنت أنا لمى ماذا؟ وارتفع نشيجه، قلت والألم يعتصر قلبي: يا عصفوري الأغلى، وغابت العبارة كطائر حلق في عنان السماء.. وأضفت بعد عناء إذ تحجرت الكلمات وقلت: الحزن الشمالي جنوبي وشرقي وغربي، قال: لو كانت الأرواح… وغيب البكاء بقية العبارة، وكنت أناظر تقاسيم وجه ابني وقلت: ذَهبت وحَلّقت كطير لازوردي في السماء، وامتزجت في زرقته، اقتسمنا العبرات الساخنات، مَسَحت دموعه التي سحّت من عينيه، ولم يزل حزنه كشجرة شوك يطفح من وجهه البريء.. وقتها سمعت همساً صارخاً حملته الريح الشمالية، لمى من أخبرك بأن الحزن سينتثر كسحابة رمادية لتملأ آفاق الجزيرة؟ من أخبرك بأن للوطن قلباً واحداً يدق نبضه لفاجعات الزمن؟ من أخبرك بفشلنا الصارخ في احتواء المواقف!