أرادت أن تطير مع البالون فاختارتها السماء نجمة وعشا وعصفورا ملائكيا. كانت تنفخ البالونات – كما يقول أحد أقاربها- لتحلق معها بخفتها، اقترحت على رفيقتها أن تطير مع البالون، فقالت الأخرى: أخشى السقوط.. كانت تقى، الطفلة السعودية التي قتلتها أصابع الإجرام والهمجية، والشاهد الجديد ضد الآلة الثقيلة للموت، تحلم بأن تطير كعصفورة، كروح تحن إلى عشها الأزلي، أن تجعل العالم يبتهج بمرحها، أن تلعب بعرائس الجنة دون أن تكترث بأصابع الموت المتكاثرة وسط مسرح الجنائز. الطفولة نقيض مرح للموت، عهد الهناءة الأول كما يقول أحد الحالمين. للمجرم أن يمس ما يشاء، وللباطل أن يتسلل إلى كل البيوت إلا بيت الطفولة. لحظة الطفل لحظة شعور قدسي، لأحلامه لغة فردوسية، لغة تنطق بالحقيقة «الحقيقة في قلب الطفل، واللعنة على كل من يسيء إلى طفل». كما يصرخ ديستوفيسكي في روايته الشهيرة «الجريمة والعقاب». الطفلة تقى ماجد الجشي لم تكن الطفلة الوحيدة التي لم تمهلها البشاعة لاستكمال الحلم، علينا أن نتذكر أن مكنسة الموت لا توفر أحدا، سوريا مسرح إضافي للجثث، اليمن السعيد فصل آخر في دراما القتل والتنكيل بحمائم السلام «الإرهاب لا يميز المستشفى عن القاعدة العسكرية» فلسطين سباقة ولها تاريخها في بؤس الصغار، العالم العربي برمته صار مسرحا لإرادات وأفكار ووجوه تمتهن الموت، لم يعد للطفولة ما تحلم به، هنا حيث لا مأوى للطفولة الهانئة صار الحلم كابوسا مرعبا، بل صرنا نألف مشاهد الجثث، جثث الأطفال والنساء، كل شيء ثمين يفقد قيمته في بورصة الإرهابيين. من يحرك مسرح الموت هذا؟ من له المصلحة في حفلات الاغتيال؟ أسئلة محيرة لأنها لاتزال تؤثث الواقع وتملأه بالمعطيات. رحيل تقى، وأطراف أطفال سوريا المتجمدة من الصقيع والبرد، وتشردهم في الملاجئ، ومشاهد الموت اليومية في العراق، وتحول الربيع إلى خريف بل شتاء، كلها قرائن تعزز من وجاهة الأسئلة التراجيدية حول «لولغوس القتل» المعمول به على مستوى كوني. لا يمكن – بطبيعة الحال- تبرئة المتبجح الدولي، فهو صانع لسياسة و لشرطة دولية «على قول إدغار موران» حاضنة لكل أشكال العنف والاستئصال، سياسة طردت الأخلاق والقيم على طريقة مكيافيللي لكي تحتضن الإرهاب نقيضها المزعوم، سياسة متهمة لأنها نزعت القداسة عن الأخلاق ثم أعادتها لخرافتها الجديدة، سياسة وثقافة الرفاهية المعممة للبؤس و«التوابيت الحجرية المصنوعة من الإسمنت» والمحملة بأشكال الرعب الذي ينتج ذاته. ثمة شبح، على غرار شبح ماركس المنهك لأوروبا، يلاحق العالم اليوم، شبح مغاير فطن إليه «جان بورديار» في مداخلته الشهيرة حول عنف العالم، إنه شبح الإرهاب، شبح اللامعنى الذي يخترق جدارا سميكا من الغائية واحتكار المعنى. كتب يقول: «الفرضية المطلقة تؤكد أن الإرهاب لا معنى له، ولا هدف له ولا يقاس بالنتائج الحقيقية، السياسية أو التاريخية.. لأنه بلا معنى، حسب فهمنا، فهذا يعني أنه يصنع الحدث في عالم مشبع أكثر فأكثر بالمعنى، بالغائية والفاعلية». إنه لوغوس الجهالة المنتجة لنقيضها، الإرهابي ينتج حدثا لا معنى له لأنه يحتكر كل المعنى، أن تحتكر المعنى فأنت بارع في لعبة الاستئصال والأحادية والثقة المفرطة، وبالتالي شريك ومتورط في حلقة جهنمية للموت، احتكار المعنى مشروع للتصفية، لآلة القتل الجهنمية، ليس هناك متسع للمرح الطفلي، لشكوكيته وفضوله ونهمه الاستكشافي، دواليب المعنى الأحادي والنرجسية الفكرية لا تنتج إلا صلابة الرصاصة المعبأة بالكراهية وإلغاء الآخر. «ما وراء الحدث» يكمن تحديدا في هذا العقل، حيث النقاء على المستوى الذهني ينتج واقعا ملتبسا، مصابا بعماه الفطري، واقعا مكدرا للحياة.. خطاب النقاء، الذي ينخرط فيه كل معتد بذاته وكل من يرفض ولو على سبيل الاحتمال فكر الآخر ورأيه، هو خطاب عنيف يتمركز فيه الموت كآلية وحيدة للحسم. في كل ثقة كمون لرصاصة قاتلة، المسألة إذن مسألة عقل استئصالي ينتشر ويتسلل ويتخذ أشكالا عديدة ظاهرة أو مستترة، في الدين أو في السياسية أو في الفكر، وما الإرهاب إلا محصلة أو سطح ظاهري، المسألة في العمق مسألة ذهنية لا تعبأ ولا تترك مكانا للتعدد، الفاجعة والأزمة تعود لذهنية متخشبة لم يفلح التعليم في زحزحتها، فتش عن مساوئ التعليم لكي تجد تفسيرا لهذا الشبح المرعب، لم تعد التفسيرات الاقتصادية ذات جدوى، كما لم يعد التعليم بشكله الحالي مفيدا «كثير من المتورطين في قضايا الإرهاب لديهم شهادات عالية».. كل شيء مأزوم يفسر اليوم بعامل تربوي، التعليم يفرخ عقولا «أداتية» لا تمتلك المناعة ضد التوظيفات العصبوية والارتدادية، حياد العقل كما يقول بورديو ليس محصنا ضد استخدامه السيئ، كما أن النمو المعرفي المتاح أكاديميا هو نمو أحادي ممسوخ لأذرعة متشابهة مستنسخة كتلك التي نمت لجريجور بطل رواية المسخ الشهيرة لكافكا، فالتعليم يمنح تخصصا لا معرفة، لهذا هناك من يشخص العلة في التغييب الممنهج للعقل والتعليم الفلسفي حيث يمكن للعقل أن يستفيق على حقيقته التعددية. الإرهاب ليس له دين ولا مذهب ولا جغرافيا، كما يقول والد الشهيدة تقى، ربما لأنه يتربص بنا جميعا، وربما لأن لديه قدرة على التخفي والكمون، لكن الأكيد لصلته الوثيقة بالفكر التمامي، فحين يرفض المرء استبطان المرايا، حين يوغل في نزعته الأحادية ويكتفي بالنتاج الأكاديمي الذي هو أيضا أحادي بما هو مجرد معرفة اختصاصية، حين يشطب الآخر ويحتكر المعنى فهو مشروع لإرهابي محتمل، أو حتى شريك في الجريمة، الإرهاب ثقافة أو استعداد ذهني وطبيعة سيكولوجية، منجل الإرهاب لا هوية له هذا صحيح، لكن هي كذلك أيضا مرثية الضحايا والتعاطف معهم، دماء الضحايا متعالية هي الأخرى على المذاهب والجغرافيا، أليس من المقيت إذاً تحييد الإرهاب وتطييف المرثية؟