كثير من الناس إن لم نقل غالبيتهم، خاصة العوام الذين يمثلون قوة تسلط الجهل ووقوده، تنتظر وبصبر فرجها ونقل حالها إلى حال أفضل على يد المخلص المنقذ الذي يجلب الأماني ويحقق الآمال، فيقلب جحيمهم إلى جنان في انتظارهم الطويل، هذا الذي نملت منه الأرجل، بل تخدرت إن لم نقل تعفنت من طول انتظار، تُهنا في عصور الضياع الحالكة السواد وغرقنا في الحروب والفقر والشقاء.. والغريب أن كثيراً من «العلماء» عملوا على طمس الحقائق وخنق الآمال وتخدير الناس بالصبر «الجميل» والاستكانة لمصائرهم في انتظار الفرج الحلم، دون حثهم من أجل كشف الغمامة ورفع البلاء بالعمل الصادق الصحيح على منهج أخلاقي علمي عادل.. فهل نحتاج لقرون أخرى لنستسيغ المطلب الأساسي للحياة وكرامة الإنسان ونتكيف مع طعم الحرية؟؟ ولكن الغريب أن كثيرين يقاومون هذا المطلب الحياتي «الحرية» وكأنها عدوهم الأول، لأنهم اعتادوا الذل والخضوع والانصياع. ما يحرك ميول الإنسان في سلوكه هو إشباع احتياجاته ورغباته وغرائزه بشكل عام، ثم هو يتطلع دائماً لمزيد وهذا من طبائع النفس الإنسانية، كما أن الدافع لأي مشاركة اجتماعية عادة ما يكون الاعتراف بالجهود وتثمينها والشكر عليها، وهذا ما يحفز الإنسان للعطاء أكثر.. وإن هذه النزعات كلها عادة ما تنضبط ضمن الدائرة المجتمعية التي يعيش فيها الفرد، فيتم إشباع هذه الاحتياجات والرغبات وغيرها بالتفاعل ضمن منظومة الدين والعادات والتقاليد وعرف السلوك العام، الذي يسيح في فضائه، فتدور سلوكياته ضمن دائرة إشباع هذه المتطلبات. إن تغيير سلوك المجتمعات أو بعض منها يأخذ طريقاً طويلة جداً، وإن كانت استجابة لسنن من سنن التغيير المعتاد على المجتمعات مع الزمن، وعادة ما تمر بهدوء متأثرة بعوامل كثيرة، وإن استجابة المجتمعات للتحول والتغيير في السلوك المجتمعي يعتمد كثيراً على حيويتها ومرونتها، إلا أن التغييرات الأسرع والأكثر جذرية قد تتم على أيدي مَنْ يحملون بشائر جديدة تحمل الخير وتبث النور مثل الأنبياء والرسل عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم أو بعض أتباعهم، يكون الداعم الأول لهؤلاء صدق الفكرة وقوة الحق المدعومة إلهياً.. إلا أن التغيير يمكن أن يتم أيضاً على أيدي مفكرين مؤثرين مثل: ماركس ولينين، اللذين أثرا في أتباعهما لدرجة أنهم اعتنقوا أفكارهما، وأكدوها لاحقاً بقيام ثورتهم البلشفية لإقامة هذا التغيير في السلوك المجتمعي، الذي ما زال قائماً حوالي قرن من الزمان.. كما أن هذا التغيير يمكن أن يمضي على يد عسكرية تساعده القوة الداعمة والضامنة لتنفيذ الإرادة الصلبة في التغيير والإقدام على ذلك باستخدام القوة فعلياً، كما فعل العلماني أتاتورك الذي غيّر كثيراً في المجتمع التركي لعشرات السنين وإن لم يستطع سلخه تماماً من دينه إلا أنه بدون شك غيّر كثيرين وفي كثيرين.. فهؤلاء القادة العسكريون عادة ما يشكلون خلايا انطلاق لهم ضمن مؤسساتهم التي ينتمون لها، والتي يختلفون معها عقائدياً فيعملون سراً لضمان نجاح أفكارهم وفرضها لاحقاً.. لا يخفى على أحد التغييرات في سلوك المجتمعات الأوروبية، بل والعالمية أثر ونتيجة الثورة الفرنسية التي نعيش تبعاتها إلى يومنا هذا. وفي العقدين الأخيرين أصبح لوسائل الإعلام المختلفة والتواصل الاجتماعي دور فاعل في تغيير اتجاه وسلوك الأفراد والمجتمعات من خلال استهدافهم المباشر بمختلف هذه الوسائل، والمدعومة من مؤسسات دولية فاعلة وهادفة أو أفراد ذوي نفوذ سياسي ومالي لتستهدف شرائح معينة أو مجتمعات معينة، وذلك بهدف تطويعها فكرياً ليتشكل بذلك رأي عام يتبنى نهج وفكر هؤلاء، وحيث إن الوصول لأعداد ضخمة وشرائح مختلفة أصبح سهلاً، أخذ نفوذ هذه الوسائل يزداد تأثيراً على الشباب خاصة، والعقول الطرية عامة.. يستحسن أن يتم التغيير بإيجاد بيئة فكرية حرة نظيفة وناضجة، تحتضن كل العقول وتحتوي كل الأفكار التي بدورها تتزاحم في فضاء فكري صالح لتحتك مع بعضها هناك فتنضج وتصقل لتترجم إلى حقائق مفيدة بعد اعتناقها طبعاً.. المبدعون الأبرع هم مَنْ يسهرون على الحلول الجماعية، هذه الحلول تتميز بنفعها وشموليتها وانعكاس تأثيراتها على المجتمع؛ بل تتعدى إلى مجتمعات أخرى، فإبداعات أينشتاين وأديسون وتسلا وأمثالهم كانت ومازالت جماعية التأثير، إمكاناتها أقوى وساحات عملها أوسع ونتائجها متقنة ذات قيمة أعظم في الإصلاح والنهضة والتغيير. إن أخطر ما نراه اليوم وما نلمسه من عدم إدراك الأجيال بعمومها لما يجب العمل عليه وبه للتغيير الإيجابي، فهم ينتظرون طويلاً لأن يأتيهم «المخلص» ليقود فيهم مسيرة التغيير والوصول للأفضل دون أن يحركوا ساكناً، ودون أن يقدموا ما يجب أن يقوموا به هم أنفسهم، فنقول إن التغيير الأول يبدأ من الذات بصب كل الطاقات الإيجابية لمصلحة الأوطان والإنسان والمجتمعات والتفاني في خدمتها وتقديم المنفعة العامة على المصلحة الخاصة، التي تأتي كنتيجة طبيعية من نتائج العمل لخير المجتمع لو فقهوا ذلك.. كما يجب معالجة، بل وعلاج الأصوات العنصرية المريضة التي تحاول تسخير مصالح المجتمع لتصب في خانة مصالحها الخاصة المادية أو المعنوية، وتعمل لتحويل قدرات الشعوب للصالح الخاص بطريقة ثعلبية ماكرة تخدع كثيرين، ولو بدا ظاهراً أنها مدافعة حامية لمصلحة الوطن فتطرح حلولاً جنونية قد تكون مدمرة لاحقاً، فيفسح لها المجال ليتعالى صخبها وهي في الحقيقة كأصوات الأواني الفارغة لا تشبعك إلا ضجيجاً.. نحن مطالبون ببذل كل الجهود وتنظيم كل القدرات واستغلال كامل الطاقات وتسخيرها لمصلحة الإنسان والرقي به، كما يجب كبح رغبات الذات الأنانية التي تعمقت في النفوس فمدت الجذور عميقاً في الصدور، وإصلاحها برغبات جمالية إنسانية نافعة بتلبية رغباتها الإيجابية الطموح، لتقوم بزرع أشجار محبة خير الآخرين والعمل على رعايتها، فهي فقط التي تغدق الثمرة الزكية على الجميع، يتم كل هذا بالارتقاء الفكري والأخلاقي للأفراد ليشكل حجر الزاوية في بناء حضارة الأمة.. فدور المفكرين والملهمين والعلماء والقادة ومَنْ لديهم المعرفة والقدرة هو تطويع قدراتهم وتسخير معارفهم وعلومهم، لتحويل المفاهيم في السلوك المجتمعي إلى مفاهيم إيجابية نافعة، والعمل على الارتقاء بها، وذلك برفع درجة المعرفة والإدراك عند أفراد المجتمع، بتشكيل قاعدة فكرية إيجابية مشتركة للجميع، وهذا ما سيصب لخدمة تغيير سلوك الأجيال للأفضل.