فاجأني الصديق الشاعر جاسم الصحيح، بخبر فاجعة الاحساء وأنا في احد المطارات الغربية، ولم أكن أتتبع الأخبار فبيني وبين "التلفاز" قطيعة، وهجران طويل لأنه أصبح كغراب البين الذي ينعق بكل بلاء، وداء.. وظللت طيلة الرحلة أفكر في الحادث، وأبعاده وأسبابه. لأن الاحساء بالذات قد عُرفت وعرف أهلها، بالسكينة، والتآلف، والتآخي والاندماج الاجتماعي، دونما التمييز الشاذ بين طائفة وأخرى... ولقد كان استنتاجي كما هو استنتاج الكثيرين بكل تأكيد هو جرّ الاحساء إلى العنف الطائفي، وتمزيق نسيجه الاجتماعي، وإثارة البغضاء، والكراهية، والتوجس بين أهله... والسؤال: من المستفيد الحقيقي من هذه الجريمة الشنعاء، ومن هذا العمل البربري..؟!! أجزم.. بل لا يساورني شك من أن الأمر قد أعدّ بليل.. بل هو كيد وراءه، ما وراءه.. وهذا ليس تكهناً، ولا مجرد تخمين.. إنني أصر على أن هناك من يسوؤهم، ويزعجهم، أن تظل الاحساء بمنأى عن الفتنة، وأن تظل آمنة مطمئنة، وأن يظل أهلها سنة وشيعة طيلة حياتهم، متعالين على الطائفية، والكراهية، وبمثل هذا الانسجام الفريد.. وأن مثل هذا العمل الإجرامي في نظر مدبريه كفيل بأن يجرف الاحساء وأهلها إلى هاوية الطائفية البغيضة.. وأجزم أن هذا الامر ليس مصادفة ولا هوجا ورعونة، وإنما هو تخطيط شرير.. ومن ثم فإن علينا أن نكون أكثر نباهة، وحيطة، واستقراء لهذه الواقعة الأليمة.. فمن غير المشكوك فيه بأن هناك أعداء في الخارج بل وفي الداخل، يحاولون النيل من وحدة هذا الوطن، وتسرهم زعزعة بنائه، وهزّ أركانه، وأمنه، بل هناك من يعلنون ولاءهم لغيره، والاعتداء على رجال أمنه بالنار والرصاص بشكل متكرر..!! *** إن هناك أناسا يلعبون على حبال الطائفية، والمذهبية، بل يلعبون على حبال التصادم الفكري، وقد كتبت في هذه الجريدة الموقرة مقالات عدة، حول صراع الأفكار، وقلت إن الجغرافيا، ثابتة لا تتغير، وإنما الأفكار المتصارعة من خلال الأقلام هي التي قد تشب فتناً، وتمزقاً وتفكيكاً جغرافياً لا قدر الله.. فهناك من يؤججون هذا الصراع، إما عن حسن نيّة، أو عن خبث وفساد طوية.. وليس من الكياسة، ولا من الوطنية، إثارة الأعاصير والزوابع الفكرية، بطريقة تهدف إلى التمزيق، والتشتيت.. وزرع الكراهية، واستفزاز الأنفس، لتظل محتقنة، مختنقة، متوترة حانقة،، ومن يتابع ويقرأ بعض ما يكتب في الصحف وينشر في وسائل الإعلام، أو وسائل التواصل الاجتماعي، سوف تأخذه الدهشة، لمثل هذا الطرح الصراعي، التصادمي، التفكيكي، ولكأن الحكمة قد ماتت، والرشد قد فقد وعيه..! فلصالح من هذه الدوامة من المناكفات والاتهامات..؟! فهذا ظلامي، وهذا علماني، وهذا اسلاموي، وهذا ليبرالي، وهذا اخرافي جامد، وهذا تنويري، بل هذا وهابي، وهذا سلفي.. لاشك أن الخلاف، والاختلاف أمر طبيعي شريطة أن يظل في إطاره الراقي، وليس سبيلا إلى الشقاق ، وزرع الأحقاد في النفوس وبالذات في هذه الظروف المحيطة بنا. انه ليسوؤني أن أقرأ لمن يزعمون أنهم أصحاب فكر واستنارة فلا أجد فيما يطرحون إلا الاستثارة، والتهويش والسخرية.. بل إن المرء ليشم فيما يكتبون رائحة الكراهية والبغضاء والحماقة وسوء الخلق.. وأقول انه من حق المرء أن يعبر عن رأيه وأن يطرح رؤيته ولكن ليس باستهجان الناس، واحتقار عقولهم، والاستخفاف بهم.. فلا يوجد مفكر، أو عالم، أو واعظ محترم مخلص يستهجن عقول الاخرين.. هذا استبداد وإقطاع فكري وتسلط واغتصاب لكرامة العقل.. وعظماء المفكرين عبر التاريخ طرحوا أفكارهم بهدوء ورزانة وحرية اختيار فاحترمهم كثير من الناس واخذوا بأفكارهم.. أما من يحول قلمه إلى سوط أو فأس لاحتطاب العقول، و تهشيمها وتكسيرها فإنه لا يبني فكرا، وإنما هو معول هدم وتشتيت.. إن الناس قد يتنازلون عن أموالهم وممتلكاتهم ولكنهم مطلقاً لن يتنازلوا عن عقائدهم، وأخلاقهم، بل إن ذلك سوف يزيدهم إصرارا على التمسك بها ومواجهة ومصادمة من يعتدي عليها، ومن ثم فلا بد من اتباع سبيل الحكمة في طريقة طرح وعرض الأفكار ولابد من الإيمان بأنه يجب أن يكون للأمة عقل جمعي يمثل نسيج أفكارها التي توحد بنيتها الجغرافية.. أعود وأقول أإن حادثة الاحساء عمل شيطاني لا جدال فيه.. كما أن هناك أيضاً عقولا تمارس الشيطنة وأبلسة الآخرين وصناعة الاحتراب الفكري.. وأقول أيضاً وبدون مواربة إن من يحب الوطن حبا حقيقيا، ومن يستشعر ولاءه، وانتماءه له، فإن عليه أن يغلب مصلحة الوطن فوق هواه وعواطفه وإلا فإنه دسّاس أثيم.. واعلموا أيها السادة أن شرارات الأفكار السيئة قد تشعل كل شيء.. نعم كل شيء.. حمى الله وطننا من الكارهين، والحاقدين، وذوي المكائد..