أفشلت اللوحة التضامنية التي سطرها السعوديون بجميع فئاتهم وتبايناتهم الجهوية والإثنية والمذهبية مخططات أعداء الوطن من الإرهابيين والخونة من خلال تضامنهم واستنكارهم للجريمة البشعة التي أصابت أبناء جزء عزيز من وطننا الكبير، وجاءت مسيرة تشييع الشهداء التي تزينت بأعلام الوطن وصور الشهداء من أبناء المنطقة ورجال الأمن البواسل وملأت شوارع الأحساء؛ لتعكس حالة بالغة الوضوح عن قوة التماسك الوطني في وقت الشدائد ولتؤكد أيضا أن المشيمة العامة والبطانة الأخلاقية للمجتمع، تحمل إرادة التعايش والوئام والتعاون والمحبة، فخابت ظنونهم وكانت محاولة خاسرة بكل المقاييس للراديكاليين الطائفيين، ويوضح عدد من المثقفين والإعلاميين أن الرسالة الوطنية التي سطر حروفها السعوديون على كل المستويات من التنديد والتلاحم والمشاركة في الألم والأمل يجب ألا تنسينا حقيقة أن هؤلاء القتلة ليسوا لوحدهم المتآمرين المتربصين بأمن هذا الوطن ووحدته، بل هناك فئات تؤازرهم بذات الطموح والجهود، مواصلة تأليبها بالدغدغة على العقول اللينة وهي للأسف شخصيات معروفة استغلت مواقع التواصل الاجتماعي والمنابر لبث أفكارها المسمومة. يقول الباحث عبدالله النغيمشي: "لو نظرنا إلى أصحاب المشاريع الطائفية التهديمية من المذهبيين وكيف كانوا يظنون أنهم الأمكن والأقدر في تدجين وتطييف المجتمع لخلناهم هذه الأيام يواجهون أنفسهم بحيرة نظراً لتوهمهم أن مجتمعنا (مجتمع محاكاتي مسير) لا يمتلك إمكان معرفة الصوابية والخيرية الوطنية كما توهمهم أن مجتمعنا يحمل قابلية الانزلاق الطائفي، كانت هالة العزاء التاريخية الإنسانية ومسيرة التشييع الحميمية المدشنة بشعارات الأخوة والمحبة المذهبية ورفع صور شهداء الواجب الذين كانوا من الطيف (السني) وشهداء الغدر الإرهابي الذين كانوا من الطيف (الشيعي) فذلك أعظم تعبير وأصدق إعلان عن حضور الإنسان السعودي في صياغة الوئام والسلم الأهلي والتعايش الشعبي ومقاومة موجة الكراهية والإرهاب بموازاة جهود أجهزة الأمن الجبارة، ذلك أن أرهاط الغلاة المذهبيين والدعاة الحركيين كانوا يفترضون أنهم في مواجهة أجهزة الأمن بمعزل عن أبناء الوطن الذي طرأ وتكشف في مخيال هؤلاء التهديميين أنهم وجدوا أن المجتمع ليس كما كانوا يفترضونه سلبياً لا يمتلك إرادة أو حس المواجهة لضلالاتهم وأفكارهم كما تأكد للطائفيين أن معركتهم ليست مع السلطة منفردة وإنما حتى مع أفراد المجتمع الذي ظنوه ظلاً للأمن"، ويضيف النغيمشي: صحيح أننا تأخرنا في بعث هذا التواشج الوطني والتآخي التعايشي حتى اعشوشبت أشجار الكراهية والفرقة لكن كما قيل أن تتحرك متأخراً خير من ألا تتحرك أبداً، لكن هذه الرسالة الوطنية التي توجها المجتمع على كل المستويات من التنديد والتلاحم والمشاركة في الألم والأمل والذي استكمل أجمل استكمال عبر مسيرات العزاء والتشييع المشترك وتنادي العموم بحتمية الوقوف والتعبئة ضد الفكر العدمي والطائفي أجلى رسالة وعنوان للمسيئين وطنياً ويؤكد أن أرواح الشهداء الأطهار من أبناء الوطن وشهداء الواجب ستكون المداد الذي يغير وجه تاريخنا الثقافي والمللي والوطني وستشهد على الاصطفاف الحميمي من كافة أبناء الوطن كما ستعلن هذه الدماء الطاهرة للعدو القريب قبل البعيد أننا أمة لا يحركنا زلزال العنف والطائفية والإرهاب. كانت هذه الدماء هي اللحظة الملحمية التي قوضت أوهام حثالة الطائفيين والسوقة الإرهابيين الذي غرهم طول بال المجتمع والدولة حتى أخذهم من أنفسهم التيه والغرور، بدوره يؤكد الدكتور عبدالرحمن الشاعر – وكيل جامعة الأمير نايف الأمنية – أننا كلنا على ثقة مطلقة بأن حادثة الأحساء هي حالة شاذة، وقد تقع في كثير من دول العالم، ولكن المميز في بلادنا هو التلاحم الذي قل نظيره بين القيادة والشعب، القيادة ما فتئت تعلن أنها خادمة لله ودينه ومقدساته وللأمة والشعب ما برح يؤكد ويجدد الولاء والبيعة لهذه القيادة التي جعلته في الريادة، كما يقول الشاعر إن هذا التلاحم الاجتماعي كفيل بلجم المرجفين وشذاذ الآفاق وعزلهم دينيًا واجتماعيًا ، فهذه البلاد نذرت نفسها لخدمة الحرمين والشريفين وخدمة المسلمين وخدمة الأمن والسلام الدوليين حتى أصبحت الركن الركين في هذا العالم، من هنا يأتي الاطمئنان، هذا الاطمئنان الذي يجسده مغاوير وزارة الداخلية والذين أثبتوا للعالم أجمع قدرتهم الفائقة على قطع كل يد غادرة تمتد بسوء نحو الوطن وأبنائه. فلم تمض ساعات حتى كان الجناة في قبضة مغاوير وزارة الداخلية، حتى رحاب أبو زيد أضحت مملكتنا الحبيبة ولله الحمد مضرب المثل في مكافحة الإرهاب بل وتتربع على عرش مكافحته، فكان لنا شرف إنشاء مركز الأممالمتحدة لمكافحة الإرهاب الذي دعا إليه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز بل وقدم له الدعم المعنوي والمادي، وما زالت المملكة تقف بحزم وثبات منادية للتصدي للإرهاب ومقاومته بكل السبل. أما الروائية رحاب أبو زيد فتقول: هذه الحادثة لا تشكل إلا وجعاً إنسانياً تجاه من فكر ودبر وخطط لقصم اللحمة الوطنية بين أبناء المملكة وهذا أمر يجب ألا يكون خاضعا للمساءلة أصلا، لكننا نعلم ويجب أن نعترف أننا لم نصل بعد لهذه المرحلة وإن وجدت فئة قليلة تمضي في اتجاه خاطئ ضمن فكر ظلامي ظالم للممارسات الدينية وذلك في المذهبين السني والشيعي وهؤلاء كما تقول أبو زيد: لا يجدي التحاور الفكري معهم ولا التواصل الراقي لأنها ترى ذلك ميلا للعنف بحاجة لعلاج جذري يجتثه من منابعه وجذوره كي لا يضر ببراعم ما تزال تتشكل وتنمو في مجتمع مسالم متحاب، وتشير أبو زيد إلى خبث نوايا القتلة عندما اختاروا شهر الله المحرم لتنفيذ جريمتهم البشعة، الشهر المقدس لدى الإخوة الشيعة وتدعو أبو زيد الجميع إلى الالتزام بنهج الدولة في تفهمها للممارسات الدينية الشيعية الذي يؤسس إلى حراك مجتمعي لتقبل الآخر والتحول من التنظير بالمثاليات إلى واقع معاش فعليا، ويبين الشاعر خليف غالب الشمري أنه لا شك أن هناك تفاعلا شعبيا رائعا مع حادثة الأحساء الأليمة، وهو يمثل بحق حرص المواطن على وطنه وخوفه عليه من أي بادرة قد تسيء له ولوحدته ونسيجه الاجتماعي لكن الشجب وحده لا يكفي فلم يعد مجدياً أن نشجب هذه الأفعال الدنيئة فحسب فالشجب والإدانة قد تفيد في قضايا أقل تعقيداً وأكثر بساطة من هذه القضية، يجب علينا كدولة ومؤسسات ومثقفين تسعى لاجتثاث الفكر المتطرّف أن نغوص عميقاً بدلاً من ملامسة الجرح فقط، فملامسته السطحية قد تشفيه إلى حين لكنها لن تعالجه تماماً فيعود بنزيفٍ أشد وأكثر ألماً! لا شك أن الإرهاب والتطرف عندنا في المملكة هو إرهاب ديني يقوم على التصنيفات، فليس لدينا تطرّف آخر يحمل هذا المستوى من العنف والأدلجة! ويقول الشمري: لعل أعظم محرض ينقاد إليه المتطرف هو وجود تراث قوي وصلب وفاعل يغذّي هذا التوجه وينمّيه، في كتبنا ومصادرنا العقدية والتاريخية يعتمد عليها المتطرّفون، وليس سراً أن داعش والقاعدة يعيدان طباعة هذه المصادر وينشرانها لأن بعض النصوص والأحداث التاريخية تخدم توجههما المتطرف، وقد دعا الشمري إلى الاهتمام بالخطابات الشرعية التي تتبنى مشروعاً تنويرياً يدعو إلى التسامح واحترام حقّ الاختلاف والاهتمام بالآداب والفلسفة والفنون، قائلا: إن هناك علماء أجلاء وتيارات عديدة في تاريخنا الإسلامي تبنّت هذه الرؤية المتسامحة لكننا لا نجد لها صدى في تعليمنا ومنابرنا ومكتباتنا! وفي اعتقادي أن الحل يكمن ف أن يكون حقّ الاختلاف في الرؤى والأفكار مكفولاً للجميع مادام أنه ينطلق من رؤية صادقة وواضحة ومتسامحة. لقد جاء الملك عبدالعزيز لهذا البلاد ووحدها وأقرّ كل أهل بلد على ثقافتهم ومذهبهم، فالصوفية في الحجاز والشافعية والشيعة في الأحساء وغيرهم من الثقافات الأخرى كانت وما تزال على ثقافتها التي ورثتها وآمنت بها. أما الإعلامية طرفة عبدالرحمن فهي تريد من كل واحد منا أن يختبر ولاءه وتقول: اختبر ولاءك، سلامة فطرتك وفكرك، صفاء قلبك، اختبر حجم امتنانك لنعمة الأمن، كل هذا ستقرؤه وتعرفه من خلال ردة فعلك العاطفية والعقلية تجاه (حادثة الأحساء).. تلك الحادثة التي راح ضحيتها مواطنون أبرياء غُدر بهم لتحقيق أغراض سياسية مخلوطة بنكهات دينية ملوثة.. فإذا كنت ممن تألم وشعر بالأسى والحزن على أرواح ضحايا الحادثة (لا تفرق في ذلك بين ضحايا الطرفين المواطنين العزل ورجال الأمن) فأنت ما تزال تتمتع بضمير إنساني وطني حي، بل إنك تتمتع حتى الآن بدرجة جيدة من الصحة الفكرية لم تتلوث بخبث الطائفية. وتضيف قائلة: إن ردود الفعل على هذه الجريمة من قبل أفراد المجتمع لم تستفز غيضاً الحاقدين فحسب، بل أعطت تصوراً واضحاً أن فئة عريضة فيه لديها وعي عال بحجم الخطر الذي يشكله الاتجاه نحو المنحدر الطائفي وهذا أمر ليس بمستغرب، فأقل الناس إحساسا بالضمير العام والشعور بالغيرة على دماء المسلمين سيكون له على أقل تقدير إحساسا بالغيرة على نعمة الأمن التي يعيش فيها هو وأسرته.. فلا أقسى من أن يفقد الفرد إحساسه بالأمن والسلم والاستقرار في مجتمعه، كما دعت طرفة كل من لديه توجهات مختلفة عن هذه السنة من الفطرة البشرية ليراجع عقيدته الدينية قبل الفكرية، فهو حتما يعاني اعوجاجاً بالغاً فيها.. أمر مهم يجب أن نلفت النظر إليه في هذا الصدد، وهو أن القتلة ليسوا وحدهم المتآمرين والمتربصين بأمن الوطن من الخارج هناك من يحاول إشعال هذا النوع من المصائب داخل البلد يؤازرهم بذات الطموح والجهود فئة من صلبنا، تواصل تأليبها بالدغدغة على العقول اللينة، للأسف يصدر هذا من شخصيات معروفة استغلت حسابها في موقع تويتر؛ لتبث منه أفكاراً في مجملها تحوي نوعاً من التأليب وتشجيع هذا النوع من السلوك الإجرامي ولكن بأسلوب ذكي وملتوٍ تفوح الخباثة منه، ذلك أنه يحوي إقناعا واهيا بطريقة غير مباشرة لتبرير هذا السلوك، ونحن لا نستطيع أن ننكر أن هذا النوع من الأسلوب ينطلي على عدد كبير من عقول الشباب، خاصة أولئك الذين يمرون بمرحلة النمو التطرفي، فهذه الشخصيات كما تصف تحاول استيراد بؤرة الجهاد المزعوم من مواطن النزاع في الخارج لتجلبه إلى الداخل، والمدرك الواعي لا يحتاج إلى كثير من الفطنة حتى يستدرك ويفهم أن هذه الشخصيات لها مآرب واضحة من عملية الإفساد هذه. أما الأستاذ سليمان عبيد العنزي – هيئة التدريب بمعهد الإدارة – يقول: عندما ننتهي من الحزن ونستوعب الصدمة؛ يجب أن نواجه الواقع بشجاعة إن أردنا عدم تكرار مثل هذه الحادثة الرهيبة. هي جريمة وفعل إرهابي ولا شك ولكنها جريمة طائفية مدفوعة بالحقد الأعمى ورفض قبول الآخر، وهذه هي القنبلة الموقوتة ويؤكد العنزي قائلا: إن أردنا أن نكون صرحاء مع أنفسنا ومع أبناء بلدنا وقياداته، وإن أردنا عدم تكرار المأساة؛ فلنمنع أسبابها ونجفف منابع دوافعها المقيتة، ابتداءً من تجريم الكراهية والتحريض لأي سبب كان، فلا مجال للتسويف والنظر للقضايا بشكل عام. لقد جاء الوقت للحيلولة دون انتشار الكراهية والتحزب بين أبناء وطننا. آن الأوان لسن التشريعات الواضحة في هذا المجال وجعلها أولوية وطنية للحكومة السعودية ومجلس الشورى التي تدرك بأنها تتعامل مع ظاهرة تهدد الأمن السلمي والوحدة الوطنية، كما آن الأوان لتنقيح مناهجنا الدراسية من كل الشوائب الطائفية والعنصرية والتأكيد على نبذها في المدارس والجامعات وبشكل قاطع وصريح. آن الأوان لإسكات كل الأصوات المحرضة على العنف والكراهية ابتداءً من القنوات الإعلامية كما حدث بعض القنوات مروراً بحسابات منصات التواصل الاجتماعي التي أذكت بعض حساباتها هذا الفكر المتطرف وما تزال، كما حان الوقت لتنظيف مكتباتنا من أوعية التطرف والتشدد بكل أنواعه. ويختتم العنزي حديثه بالقول: آن الأوان للاعتراف بأن الوطن للجميع بغض النظر عن لونه أو جنسه أو إقليمه أو طائفته. يجب أن يدرك أبناؤنا وبناتنا ذلك في سن مبكرة بحيث لا يتساءلون أبداً عن قضايا المساواة والشراكة في الوطن. سليمان العنزي د.عبد الرحمن الشاعر خليف الشمري عبدالله النغيمشي