النار تعرف طريقها نحو أشجار الغابة، لأنها حين تشتعل فإنها لا تبقي ولا تذر، والذئاب تعرف طريقها إلى القطعان إذا كانت سائبة، فإذا عدت فإنها لا تترك حنجرة للثغاء.. هذه طبائع النار، وتلك أخلاق الذئاب.. وما يحدث اليوم في عالمنا العربي، يدعو إلى القلق، والخوف، والحسرة، والألم بل والفجيعة، والذعر من هذه الأعاصير، والزوابع، السياسية والحربية، والتي تدور رحاها وتشتعل نيرانها، وتعوي ذئابها في مواقع كثيرة وبالذات في العراق وسوريا، إلى درجة أن المرء العاقل يضع رأسه بين كفيه، ويقول "اللهم سترك.. اللهم نجنا من ما نخاف ونحذر" لأن زلزلة الفتنة شئ عظيم.. ولقد كتبت في هذه الجريدة الموقرة أكثر من مائتي مقالة حول أوضاع العراق، والمنطقة، وقلت مرارا وتكرارا إن ما يحدث لم يكن من باب المصادفة بل إن هناك عقولاً تدبر، وأذهانا تخطط لتمزيق المنطقة، وبعثرتها، وتحويلها إلى "كنتونات" بل إلى مقابر للموت، وأن هناك مشروعاً للتفتيت بعد أن نجحت إسرائيل والقوى التي تساندها في "التشتيت"، وقلت أن من يقرأ كتاب الصهيوني "برناند لوس" والذي ألفه منذ أكثر من ستين عاماً حيث وضع أفكار التقسيم والتبعثر، ورسم خارطة جديدة للمنطقة، متماشية تماماً مع وعود ابن "قوريون" الذي قال: إن إسرائيل الكبرى لن تقوم إلا على خرائب أكثر من خمسين دولة عربية،! بل إن الساسة الغربيين أنفسهم يقولونها بصريح العبارة.. "لقد جئنا لرسم خارطة الشرق الأوسط الجديد.." وقلت إن الأمر أخطر مما يتوهم البعض.. كنا ننادي، ونصرخ ونقول الحذر، الحذر.. فنجابه بأفكار وأقوال مريبة فيها من التضليل، بل وفيها من السفاهة مالا يتحمله عقل الرضيع.. كانوا يزغردون للحرية، والديمقراطية، والعدالة، والعولمة، والتقدم العلمي والازدهار الاقتصادي الذي ستحمله طائرات ومجنزرات الاحتلال..! ولما رأوا ما حل بالمنطقة، من فوضى ودمار، وقتل، وتشريد وتهجير، وإبادة، راحوا يرددون بغباء وقباحة، وبجاحة تلك المقولة الإحتلالية البغيضة المسرفة في استغبائنا: "الفوضى الخلاقة" وكنا نعاني من الصداع، ومواجع القلب من هذه الأفكار والعبارات الثقيلة الوطء.. ولقد كانت بحق فوضى خلاقة، فقد خلقت الحزبية، والمذهبية، والمناطقية، وزرعت الأحقاد، والكراهيات، التي مزقت الفكر، والأخلاق، والأرض، وجعلت المنطقة على صفيح ملتهب بالصراع والفتن. فلقد ظهرت النزعات المذهبية الحادة، المدعومة بكل وسائل الدعم، والمباركة من قوى مختلفة، تآزرت فيما بينها رغم ما تدعيه من افتراق وعداء فامتدت يد محور الشر لتصافح كفّ الشيطان الأكبر،! لفرض العداوة، وممارسة الاضطهاد، والإقصاء والتهجير، والنفي، ضد فئة وطنية هي خلاصة لسان وإنسان الأرض وطينته.. ثم دفع هذا الصراع إلى بلاد الشام، حيث تقف هناك حكومة رسمية طائفية لتقتل شعبها بشكل رسمي، ولتقوض بنيان أهلها، فلا تدع حجرا على حجر، ولا تدع طفلا ينام في حضن أمه، ولا شيخاً يتوكأ على كتف ابنه، ولا صبية تحمل حقيبتها إلى المدرسة إلا ممرغة في وحل الدم والهوان والمذلة، وقد استعان ذلك النظام في ذبحة وترويعه وتجويعه وتشريده لشعبه بقوة أخرى، ودولة طائفية أخرى.. وأحزاب طائفية أخرى.. فلم تدع شيئا من وسائل الإبادة إلا استخدمته بما في ذلك الغاز السام المحرم دوليا حتى على قتل البهائم..!! كل هذه الشنائع التي مورست لذبح الشعب السوري البريء وحربه والدوس على كرامته كانت بسبب الأحقاد الطائفية والمذهبية!! وكانت وراء تلك الحرب الفريدة في قذارتها وقبحها إذ لم يسبق لها مثيل على مّر التاريخ البشري.. وقد أخذ الغرب المتحضر المستيقظ الضمير، الداعي إلى الرحمة وحقوق الإنسان، يقف متفرجا بل يشاهد ذلك كله بغبطة، وابتهاج، وقد تخلى وتجرد عن إنسانيته، وضميره الحضاري الحي، بل لعل من مسخرات هذا العالم المتحضر أن أصبح الرئيس السوري القاتل الأول في هذا القرن والذي هدده الغرب، والأمم المتحدة بالأمس واعتبروه من المطاردين دوليا لأنه مارس جرائم ضد الإنسانية أصبح اليوم في نظرهم الخيار الأفضل لقيادة سورية،!! فمنحته ثقتها المطلقة، وربما منحته جائزة نوبل للسلام كما منحتها لبيريز من قبله..!! ولقد بات واضحا أنهما كانا وجهين لعملة واحدة، وأن إسرائيل شريك سياسي، وربما عسكري لهذا الطاغية، وزبانيته، ليعملوا جميعا على نسج البساط المنقوش بدماء العرب من شط العرب إلى البحر الأبيض. أيها السادة هاهم الطائفيون يتنادون فيما بينهم فقد أعلنوها ورفعوا لواءها حرباً مذهبية صريحة، وبدون مواربة أو تقية، لقد خلعوا العمائم ولبسوا قبعات الحرب الغربية في تحالف لا يشوبه شك.. وهذه الحرب لا قدر الله قد يمتد لهبها إلى مواطن أخرى، وكما قلت بداية، فالنار تعرف طريقها إلى أشجار الغابة، والذئاب لا تبتسم في وجوه الحملان..! فالحذر، الحذر.. والحيطة الحيطة.. فليست الوطنية وحب الوطن، والإخلاص له أن نقف متفرجين على الحريق، وأن نختلف ونتصارع على تفسير هذه الأحداث.. كلا، فالأمر يدعو إلى التآزر والتماسك، والتلاحم والوقوف بحزم وشجاعة، فلنتكاتف ولنتآزر في الفكر، والقول، والعمل، كي نكون أكثر قدرة ووعياً، وإدراكاً ولكي نفرق بين الأوفياء، الأصلاء النبلاء المخلصين في وطنيتهم، وبين الانتهازيين والمنافقين، والمضللين والذين تعطلت عندهم حاسة الولاء ومات لديهم الشعور الوطني النبيل.. وقى الله بلادنا، ووحدتنا من المتربصين، ومن الفرق المداهنة المرائية التي تبث سموم الفرقة والبغضاء والتشاحن، والتي ربما رفعت لواء الوطنية وهي الخصم والعدو اللدود..