لحظتك الحساسة أمام عرضٍ سينمائي تشاهده ستبدأ فور انتهائك منه فالبداية الحقيقية لكل فيلم جيد هي اللحظة التي ينتهي فيها. حينها لا تنسَ أن تفتش عن ذاتك وما إذا كان قد تبقى منك شيء. إنك إنْ بدأت بتبني أسئلة البطل وهواجسه وتقليد إيماءاته وربما نمط حياته فقد سلبك الفيلم سلبك حتى من نفسك. أنت بالتأكيد ترغب في عرض درامي يصيب جهازك العصبي؟، أن يلاحقك بعلامات استفهامه؟ بنهايات مفتوحة تستفز ذكاءك؟ وباختبار صعب لإنسانيتك؟، أقول لك: (تروديتكتيف) وأعيدها على مسامعك خوفًا من أنك لم تستمع بشكل جيد: (تروديتكتيف). مسلسل فلسفي استطاع أن يطرح كل القضايا كقضية واحدة: جرائم قتل الأطفال، المخدرات، الموت، الاغتراب، صراع الخير والشر، الدين، الإحساس بتفاهة الوجود، الهوس الغرائزي، الخيانات، يجمعها خيط واحد: حياة – وياللحظ - مضطرون للاستمرار فيها. يعد المسلسل عملا مركبا يحمل في مضمونه معلومات نفسية واجتماعية ولغوية أيضا وتطرق لأكبر الأزمات الوجودية التي نظر إليها الفلاسفة كما حضرت مقولات فلسفية لكثير منهم من ذلك: ميلان كونديرا، ونيتشه الذي ظهرت على بوستر المسلسل مقولة له: A MAN IS THE CRUELEST ANIMAL (الإنسان حيوان متوحش) إضافة إلى نظريته في العود الأبدي التي حضرت بشكل مكثف في الأحداث. تدور أحداث المسلسل حول المحققين رست كول الذي يقوم بدوره "ماثيو ماكونهي" و"مارتي" يؤديه "هارت وودي هارلسون" يقومان بالتحقيق على مدار 16 عامًا –تقريبًا- حول جرائم قتل غامضة تقوم بها طائفة دينية يقودها رجل يلقب ب(الملك الأصفر) تتخذ هذه الطائفة من القتل -وخاصة قتل الأطفال- قربانا يُقربها من الشيطان. في حقول القصب بمنطقة (إرث) بولاية لوزيانا تعثر الشرطة على جثة فتاة اسمها دورا لانج وقد نقشت على جسدها رموزاً وأيقونات تعكس طقوساً دينية ليبدأ المحققان مشوارهما في تتبع الملك الأصفر. " مارتي: هل أنت مسيحي؟ كول: لا. كول: أنا واقعي وبمصطلح فلسفي أنا ما يسمى بالمتشائم. مارتي: ماذا يعني ذلك؟ كول (بإحباط ): يعني أنني سيئ في الحفلات!! " "رست كول" الذي يعد بطل المسلسل محقق كئيب ينتمي إلى المدرسة التشاؤمية ..حاد الذكاء..يحيط نفسه بدائرة صغيرة من الأصدقاء.. يسكن شقته غير المؤثثة..صوته خفيض أشبه بالمونولوجات الهامسة ودائما ما يستشهد بنظريات فكرية وفلسفية ويصف الأحداث بعبارات أدبية. وما يميز اكتئابه أنه لم يكن إحساسا شعوريا مجردا بل اكتئابا فلسفيا نابعا من رؤية فكرية تجاه الحياة. مر "كول" بانكسارات حادة في حياته فبالإضافة إلى عمله كمحقق يجعله في تماس مباشر مع الموت وآلام البشر يفقد ابنته في حادث مروري ومنذ تلك اللحظة أصبح يتعاطى الحياة بحذر من يتعاطى الموت وتملكته قناعة بأن الحياة التي يعيشها البشر حياة رهيبة. ومع كل هذه الحساسية في كول إلا أن لامبالاة من نوع فريد تعكسها تصرفاته تذكرك بما قاله إميل سيوران: وفي اللامبالاة قدر من الجدية. " هذا سيتكرر مرة أخرى أو أنه حدث سابقا، كلاهما" "كول" وهو يتأمل جثة "لانج" يؤمن "كول" بنظرية العود الأبدي لنيتشه وهي من أكثر النظريات خطورة على الفكر البشري وقيل إنها آخر تنظيرات نيتشه قبل إصابته بالجنون ومفادها: أن الزمن يتحرك بالكيفية نفسها التي تحرك فيها سابقا متضمنا الأحداث نفسها وكل الأحداث ستتكرر مرة أخرى و"كول" حين قال ذلك كان يعني أن الجرائم والشر عموما ستتكرر ولن ينتهي وفكرة الخلاص من الشر والآثام في الفكر المسيحي ضمن هذه الرؤية النيتشوية وهم زائف وهو ما عزز فيه نظرته التشاؤمية. "شيء ما خلف الظلام" سرعان ما دخل كول في نهاية المسلسل في صراعات دموية زعزعت قناعاته بحتمية الشر وزيف الخلاص فتعرضه للغيبوبة إثر إصاباته مكنته من الاقتراب من الموتى وخاصة ابنته. كان قد شعر تحت ظلام غيبوبته بشعور عميق ودافئ وأن فقدان الحياة ليس مخيفا والموت الذي كان يسعى لإنقاذ الناس منه هو المنقذ الحقيقي وهو من سيجعلنا بالقرب من أحبابنا .. أحبابنا الذين أنقذهم الموت.