لم يعد مهمّاً إحصاء أعداد الضحايا الذين يسقطون كل يوم في العراق وسورية. الأرقام لم يبق لها وقع في النفوس. يتعب القتلى من القتل، أما القتلة فلا. تضجر آلات القتل بين أيديهم، أما هم فلا. هؤلاء ليسوا من طينة البشر. هؤلاء ليسوا من طينة الحياة التي تعرفها الطبيعة، التي يعرفها حتى الجماد. هؤلاء ليسوا من صنف المخلوقات البهيمية. لطالما قرأنا في كتب الخرافات أنّ آلهة الأساطير القديمة كانوا يسأمون أفعال القتل فيكفّون عنها ويستريحون، هم كانوا في أحيان تأخذهم الشفقة فيرحمون ضحاياهم ويغضّون عنهم. قَتَلَتُنا اليوم، القتلة الذين يعيثون خراباً ودماً في العراق وسورية، ليسوا حتى من طينة الخرافة. حتى قتلة بني صهيون، قتلة التاريخ والعصر الراهن، قصّروا في مضاهاتهم عنفاً وجنوناً. قتلتنا، قتلة العالم العربي، هم الأشد ضراوة، هم الأقل رحمة وشفقة، إنهم يقتلون أهلهم، أبناء جلدتهم، يقتلون أطفالهم ونسوتهم. إلاّ أن مشاهد القتل الجماعي والمجازر الرهيبة لا يمكن الاعتياد عليها مهما طغت واحتلت زوايا من حياتنا اليومية. لا يمكن أن يصبح مشهد قتل الأطفال والنسوة مشهداً عادياً في حياتنا. لا يمكن مشهد السيارات المفخخة التي تحصد الأبرياء بلا هوادة أن يصبح من عاداتنا اليومية الرتيبة. فتْحُ صدر إنسان واستئصال قلبه وافتراسه ليس بمشهد عابر يمكن تناسيه. إطلاق قناصة «الشبيحة» النار على بطون الحوامل السوريات وقتل الأجنّة في الأرحام عمل أشد هولاً من القتل نفسه، هذا أقصى ما يبلغه الإجرام: قتل الحياة قبل أن تولد. أما منظر الأطفال الراقدين كالملائكة في غوطة دمشق بعدما نزل عليهم غاز السارين، فهو أعنف -وأقسى وأشنع- من أن يصدق، هذا منظر بات أشبه بجدارية الثورة السورية، كأن البعث السوري ما زال على القناعة التي أورثته إياها الأيديولوجيات البائدة: أيها الديكتاتور، إن شئت أن تترك أثراً في التاريخ فلا بد لك من ارتكاب المجازر. القتل هو القتل، فردياً كان أم جماعياً، مجانياً أم أيديولوجياً، ثورياً أم رجعياً. كان في ظن الكثيرين أن القرن الحادي والعشرين سيكون أقل دموية من القرن العشرين، قرن الثورات والحروب والعلوم والمعارف، القرن الذي يُعدّ الأعنف والأشد فتكاً وإبادة، نظراً إلى آلاته العسكرية المدمرة وترساناته الرهيبة، لكنّ القرن الراهن لم يكن غريباً البتة عن سابقه، لا سيما في رواج أيديولوجيا العنف وانتشار أدواته وترسيخ ثقافته ومباركتها دولياً، سراً أو علانية، بالتواطؤ أو باللاّمبالاة . لعل أندريه مالرو عندما قال إن القرن الحادي والعشرين سيكون دينياً، إنما كان يقصد أن هذا القرن سيكون دموياً، وهذا ما أكده التجلي «الديني» للعنف، وصعود موجة القتل «الطائفي» أو «المذهبي» الذي يحمل الصفة الدينية زوراً وبهتاناً والذي ترفضه الأديان كافة وتكافحه داعية إلى الحوار والتآلف والأخوّة، وهذه أكثر ما يحتاج اليها قرننا المريض. لماذا يقتل الإنسان؟ هل هو مفطور على القتل؟ هل يعبّر فعل القتل عن حال غريزية كامنة في الإنسان أم عن رغبة لديه في الارتقاء وتخطي ضعفه البشري؟ الأجوبة كثيرة، ولكن لا جواب يمكن أن يؤخذ به كجواب نهائي. القتل هو القضية الشائكة التي ما زالت تقضّ الإنسان منذ أن ارتكب قايين الجريمة الأولى قاتلاً أخاه هابيل. شاء قايين أن يقتل أخاه لتكون الجريمة الأولى في التاريخ هي قتل الأخ. وكان على العلماء والمفكرين منذ العصور القديمة أن يكبوا على دراسة ظاهرة القتل وينتهوا إلى خلاصات تجيب على السؤال البشري الشائك: لماذا يقتل الإنسان؟ غدت الأجوبة كثيرة، وهي ما برحت تزداد وتتسع وتتعمق، ولكن لا جواب يمكن أن يوصف بالجواب الشافي القادر على إنهاء إشكالات هذا السؤال القديم. في رواية «الغريب» يرتكب بطل ألبير كامو جريمة هي أقرب إلى ما سماه نيتشه «القتل المجاني». أما سارتر، فبرَّر ارتكاب بعض أبطاله الجريمة بمضاهاتهم فعل الخلق، فهم بهذه الجريمة يقدرون أن ينهوا حياة منحها الخالق. ووصف السورياليون القتل العشوائي الذي يتمّ في الشارع ب «الفعل» الأكثر سوريالية. فيلم «قاتلون بالفطرة» للمخرج الأميركي أوليفر ستون، يستحيل على من شاهده أن ينساه، وفيه يبلغ القتل أقصى ذراه بصرياً ووحشية وعبثاً وعمقاً... ولا تحصى الروايات والقصائد واللوحات والمسرحيات والأفلام التي تناولت القتل، والكثير منها فاق القتل عنفاً جمالياً وفلسفياً وإنسانياً... لكن القتل في الفن والأدب هو غير القتل في الواقع، والعنف المشهدي المتخيل هو غير العنف الحقيقي الذي يحصد ويقتل ويدمر... لم يعد مهمّاً إحصاء أعداد الضحايا في العراق وسورية ولا جمع أسمائهم. مشاهد القتل «الأهلي» لا يمكن الاعتياد عليها مهما تعددت وتكررت ومهما تشابه ضحاياها والجزارون، مهما تشابهت سياراتها المفخخة التي تدمر الأحياء والمساجد والكنائس... القتل هو القتل، القتل هو الفعل الأشد انتهاكاً، هو الفعل القادر على كسر رتابة اللحظة الدموية المستعادة، برهبتها الدائمة وصدمتها اللامتوقعة دوماً.