كنت في حديث حول استضافة قنوات فضائية لبعض الباحثين والمحللين والمثقفين المتجردين من الأخلاق والموضوعية والعمق العلمي والفكري إلى درجة أن يقوم أحدهم بالدفاع عن إسرائيل بدون خجل، وينفي ارتكابها جرائم حرب في غزة، وتقوم ناشطة إسرائيلية بالرد عليه مستهجنة كونه عربياً ويتحدث بأفكار منافية للقانون والمنطق، وبرأيي أن هذه النوعية من أدعياء العلم والثقافة التي تعبر من خلال المنابر الإعلامية عن فكرها المضلل، وانتمائها الضيق بدل الوقوف إلى جانب الحقيقة والعدالة تساهم في الإساءة لقضايانا، وتزيد الأمور سوءاً ونحن أحوج مايكون إلى فكر تنويري أخلاقي في هذه الفترة العصيبة، إلا أن هناك من يرى أن استضافة مثل هؤلاء فرصة لتعريتهم وفضح علمهم الزائف أمام الناس، وإظهار خيانتهم لأنفسهم ومجتمعاتهم، لعلهم أمام هذه الفضيحة الأخلاقية يعيدون النظر في مواقفهم. عندما ينطلق المثقف من رؤية ضيقة مغلفة بمشاعر الكراهية، ومرتبطة بحالة آنية فإنه من السهل عليه أن يتبدل ويتغير حسب الأحداث التي تدور حوله، والأطراف التي يخدمها، وهو يفقد بذلك استقلاليته ودوره. والسؤال المطروح هو ما الذي يميز المثقف المستقل الحر الأصيل عن المثقف الانتهازي المقيد والمرتبط بمصالح ومنافع فئة ما؟ من خلال المتابعات والتجارب يلاحظ أن ما يميز الأول أنه متمسك بما يؤمن به، ولذلك يبدو أكثر حرية وانطلاقا، وأكثر حساسية تجاه قضايا العدالة والحرية في أي مكان وزمان، ولأنه لا يرضخ للقيود والأغلال التي تحد من تفكيره فهو دائماً في حالة نشاط وتركيز على نموه الفكري والثقافي والذهني، وعينه دائماً على الحقيقة والحق، بينما الثاني سلبي يتمسك بالواقع، ويبرره، يركز على علاقاته ومصالحه، ويتقلب في مواقفه حسب المصلحة، ويجامل على حساب الحقيقة لأن عينه على الربح. في كتابه المترجم إلى العربية "المثقف والسلطة" يعطي المفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد مفهوماً لمصطلح المثقف وهو"أنه ليس داعية مسالمة، ولا داعية اتفاق في الآراء، ولكنه شخص يخاطر بكيانه كله باتخاذ موقفه الحساس، وهو موقف الإصرار على رفض الصيغ السهلة، والأقوال الجاهزة المبتذلة"و" لا يعني هذا في جميع الأحوال انتقاد السياسات الحكومية، بل يعني اعتبار أن مهمة المثقف والمفكر تتطلب اليقظة والانتباه على الدوام، ورفض الانسياق وراء أنصاف الحقائق أو الأفكار الشائعة" وهذا يتطلب برأيه" واقعية مطردة ثابتة" "وطاقة عقلانية" "وكفاحاً معقداً"، ومن هنا يصعب استقطاب المثقف الحر أو المفكر، كما يرى أنه من المستهجن تراجع المثقف من أجل منفعة ذاتية عن الثبات على المواقف القائمة على مبادئ وهو مدرك لصوابها، ويعتبر أن هذا السلوك يشوه الحياة الفكرية، ويحيّدها، ثم يقتلها في النهاية. فهل يعي مثقفونا مسؤولياتهم تجاه أوطانهم ومجتمعاتهم بعيداً عن المكاسب الشخصية والفئوية؟