حينما قرر الجاسر التحرر من أعباء الوظائف الحكومية والتفرغ للعمل الثقافي المستقل، وهو في منتصف العقد الرابع من عمره، كان يريد توجيه كل وقته وامكاناته وطاقاته لمشروع تبلور في وعيه من قبل ولذا عزم على تحقيقه بقية حياته. فرحلاته في الداخل والخارج للتعلم والعمل كشفت له فداحة واقع التخلف الذي يعيشه وطنه ومجتمعه، وأقنعته فيما يبدو بأن دوره في مجابهة هذا الواقع الكئيب لن يبرز من خلال أي عمل رسمي. لهذا أصدر صحيفة «اليمامة» وأنشأ مطبعة «الرياض» ليسهل طباعتها ونشرها، ثم حولها بعد عام إلى مجلة معرفية تعنى بالجزيرة العربية في المنطقة كلها. ومن يراجع مواد الصحيفة والمجلة سيلاحظ على الفور أن الجاسر كان يراهن على الخطاب الإصلاحي المعرفي وليس على الخطاب الأدبي أو الصحفي، أي انه كان يريد البدء من حيث انتهى اليه الخطاب الإصلاحي في أوساط النخب الحجازية. إننا هنا أمام مؤشرات تدل بقوة على أمرين مختلفين ومتكاملين هما اللذان سيحددان معاً شخصية حمد الجاسر المثقف الإصلاحي لاحقاً. الأمر الأول وعيه بأن إحداث تغييرات نوعية عميقة في وعي النخب المتعلمة القليلة هو المدخل الأنسب، بل الوحيد، إلى تطوير الوعي الاجتماعي العام بشكل تدريجي. الأمر الثاني قناعته أن المنتوجات الاتصالية والتقنية الحديثة هي امكانية متاحة وضرورة ملحة لتحقيق مشروع ثقافي - اجتماعي كهذا المشروع. إننا إذن امام رؤية عصرية تماماً لدور المثقف، ورؤية كهذه لم تكن لتعبر عن نفسها بهذه الطرق العملية والعلمية لولا أن وعي الذات المثقفة بذاتها ودورها كان قد تبلور في مرحلة سابقة. فالمعرفة من هذا المنظور هي منتوجات العقل البشري حينما يحاول التعرف على قضايا دنيوية لا مجال فيها للحقائق المطلقة. كل بحث معرفي جاد لابد أن يفتح ذهن الباحث ذاته على المزيد من الأسئلة التي تغري بالمزيد من البحث والانجاز، ولا فرق هنا بين قديم أو حديث إلا من حيث الوسائل وشروط البحث. إلى جانب صفة «العقلانية النقدية» تبرز النزعة «الإنسانية» مكوناً أساسياً في وعي الباحث. فالجاسر لم يتشكل وعيه في اطار الدراسة الاكاديمية المتخصصة، والجزء الأكبر من تحصيله العلمي انما تحقق بفضل صبره وفضوله وجهده الذاتي ثم ان المعرفة المتاحة له ولامثاله آنذاك كان أغلبها تراثي تقليدي. هكذا خاض في مجمل ما نسميه اليوم ب «العلوم الإنسانية»، لكن من دون التفريط في تلك الرؤية العقلانية النقدية التي تتجلى في كل كتاباته، وعادة ما تكون نتيجة منطقية لوعي فكري متطور يربط بوضوح بين منطلقات البحث وأهدافه، وهي ذاتها التي تغذي النزعة الإنسانية في خطاب معرفي من هذا النمط. ولكي نتفهم وجاهة القول هنا ما علينا سوى مقارنة كتابات الجاسر بكتابات غيره من جيله، ومن الأجيال التالية، حيث سندرك أن غياب مثل هذا الوعي يولد مختلف أشكال المفارقات والتناقضات في كتابات المثقف ومواقفه. هناك سمة ثالثة تحدد هذا الوعي عند الجاسر وأمثاله وتتعلق بوظيفة المعرفة تحديداً. فالمعرفة عنده ليست وجاهة للفرد، وليست وسيلة للتكسب وتحقيق المصالح الذاتية الضيقة، وليست مبرراً للانعزال والتعالي على المجتمع وشروط حياته اليومية، وليست تكريساً للأفكار والقيم والتصورات السائدة في وسط اجتماعي يبدو جلياً أن المصدر الأخطر لمختلف أشكاله تخلفه هو «الجهل» ليست شيئاً من هذا لانها اولاً وبعد كل شيء التزام أخلاقي للباحث الفرد، وواجب اجتماعي وإنساني يلزم به نفسه. إننا هنا أمام ما يمكن تسميته ب «الموقف الايديولوجي» للمثقف، وهو موقف ينطوي بالضرورة على أبعاد وطنية وقومية واضحة حتى من تسمية الصحيفة والمجلة - والمنزل - لكنه يظل موقفاً منفتحاً لا يرتهن للشعارات والخيارات السياسية الضيقة لاستناده إلى المعرفة والفكر أولاً وقبل كل شيء. المعرفة بهذه السمات والأبعاد الدلالية كانت عند الجاسر نواة مشروعه الإصلاحي لأنها مبتدأ كل إصلاح والوسيلة المثلى لممارسته، وهي في الوقت نفسه الغاية السامية الوحيدة لباحث مثقف يعي طاقاته ويحترم ذاته ويصر على ممارسة حقوقه وواجباته مهما كثرت العقبات والتحديات. حينما وجه جهوده المعرفية في مجملها إلى ثقافة الجزيرة العربية كان يدرك جيداً أن هذا الفضاء أصبح كالقارة المجهولة رغم انه الوطن الأصلي للعرب والمصدر الأول للغتهم وآدابهم، وهو منطلق عقيدتهم وحضارتهم، فضلاً عن كونه وطن الباحث الذي ينتظر منه أن يعرف ويعرّف به أكثر من غيره. بصيغة اخرى نقول انه إذا كانت المعرفة العقلانية النقدية هي النواة الاستراتيجية للمشروع الثقافي لحمد الجاسر فإن هذا الفضاء تحديداً هو المجال الاستراتيجي لتحقق المشروع نظراً لاهميته الرمزية الاستثنائية للأمتين العربية والإسلامية. لم يكن من المتوقع أبداً أن ينشأ خطاب معرفي بهذه السمات والأبعاد ويتصل وينشر من دون مجابهة العوائق المتمثلة في خطابات وسلطات اخرى في بيئة محافظة عادة ما تعاين كل اختلاف كخطر ماثل أو محتمل. فكتابات الجاسر في مجملها، وفي مختلف مراحل حياته، لم تكن لتنزع إلى الأساليب والأفكار الصادمة لأن الشخص بطبيعته يميل إلى المواقف العقلانية المتزنة الهادئة. ومع هذا كان لابد أن يصطدم خطابه المعرفي الجاد بخطابين كانا، ولا يزالان، يحاولان احتكار كل مشروعية للقول أو للفعل. فالخطاب السلفي الذي لم تتح له فرصة لتطوير ذاته، مفاهيمه ومقولاته، واطروحاته، منذ الشيخ محمد بن عبدالوهاب، لم يكن ليتقبل برحابة صدر وعقل أي معرفة تختلف عن حقائقه الحدية الواضحة المطلقة التي تلقن من جيل لآخر دونما تغيير يذكر. كان يكفي أن يكتب حمد الجاسر عبارة تخالف تبدو مخالفة للفكر السائد (رسول السلام) مثلاً أو أن يعرض ببعض الوعاظ الانتهازيين حتى تثور المؤسسة الدينية ضده ويضطر إلى ايقاف صحيفته لأكثر من شهر. أما حين يبدو خطاب الجاسر متأثراً بالنزعات العقلانية النقدية للمحدثين من المثقفين العرب أو المستشرقين فالمؤكد أن علاقات التوتر بين الخطابين ستبلغ ذروتها لأن خطاباً تقليدياً كهذا عادة ما يتهم الخطاب الآخر بمجافاة منطق الشرع وربما الخروج عنه وعليه. الخطاب الرسمي للدولة كان يحتاج إلى خطاب النخب الحديثة لتطوير البنى الإدارية والخدمية والإنتاجية لدولة في طور التشكل، لكنه يحتاج خطاب النخب التقليدية لتأمين مشروعية الدولة ذاتها. هكذا كان يدعم ويساند النخب الجديدة إلى أن يصطدم خطابها بذلك الخطاب التقليدي فيتخلى عنها أو يستعمل سلطته القوية للحد من فعاليتها ضدها. أما حينما كان الخطاب الإصلاحي يبدو منتقداً للمؤسسة الرسمية ذاتها فالمؤكد انه يصبح خطاباً معارضاً مرفوضاً من وجهة نظر سياسية دنيوية هذه المرة. كان يكفي أن يقول أحد الموظفين الرسميين البارزين في الدولة أن كل الصحف والمجلات تكتب وتنشر حسب التعليمات ماعدا «اليمامة» حتى يصدر الأمر بايقاف الصحيفة وسجن الجاسر أو اعادته إلى قرية «البرود»! ولحسن حظه وحظنا معه انه كان في بيروت حين علم بالأمر ولذا قرر البقاء هناك ومتابعة مشروعه المعرفي، من دون الانخراط في المواقف السياسية المعارضة أو في مواقف اليأس والاحباط، كما حدث لغيره. فالخطاب الذي تبناه من قبل ومن بعد لم يكن ليدفعه إلى المواقف الجذرية، ولم يكن ينزع إلى الأفكار والأطروحات الجريئة الصادمة، ولم يشكك قط في مشروعية السلطة القائمة. انه خطاب قيم ومبادئ معرفية تقدم سلطة المعرفة على غيرها، وتلزم الذات الباحثة بعدم التفريط في حقوقها في البحث والتفكير والتعبير عن اجتهاداتها، حتى وان تنازلت عن بعض حقوقها الفردية للشخص كإنسان وكمواطن. هنا تحديداً تصبح صورة المثقف المستقل الشغوف أبداً بالمعرفة أهم من صورة الذات الفردية - الاجتماعية العادية. تلك أهم من هذه، لانها نذرت نفسها للبحث والتأمل والعمل في مجالات المعلومات والأفكار والقيم، وفي هذا المجال الثقافي الرمزي يفترض أن تثبت تميزها، وليس في مستوى علاقات الحياة اليومية المعتادة. الجاسر هنا لا يختلف كثيراً عن كبار المثقفين في كل زمان ومكان، وبالتحديد أولئك المثقفين الذين يؤمنون بأن كل ثقافة وكل معرفة اما أن تساعد على تطوير وعي الإنسان وذوقه وأسلوب حياته وإلا فانها تفقد بعداً من أبعادها الأساسية. هكذا ما إن اتصل البحث وتراكمت الانجازات حتى اكتسب الباحث محبة اصدقائه وتلاميذه، وتقدير زملائه في مهنة البحث والتعرف، واحترام خصومه وأعدائه وكأن الخطاب المعرفي ذاته هو الذي فرض مكانته العلمية وهيبته الأخلاقية على الجميع. فالعمل المعرفي الجاد المخلص النزيه لابد أن يفي ويكافئ صاحبه.. ولو بعد حين.. هذا هو حمد الجاسر الذي اتحدث عنه اليوم وآمل أن يتحدث من هذا المنظور الذي نزعم انه الأليق به والاجدى لنا ولمن بعدنا. حينما طرح إ. سعيد صورة المثقف للبحث ميز بوضوح بين نموذجين مختلفين كل الاختلاف في سياق الثقافة الغربية. هناك المثقف المنقطع للبحث عن الحقيقة من دون أي انشغال بفعالية الثقافة في المجتمع، وهناك مثقف يبحث ويجتهد وينجز، وهدفه الاسمى مصلحة الإنسان وليس مجرد خدمة تلك الحقيقة الافلاطونية المتعالية. الجاحظ وابن رشد وطه حسين والسباعي وحمد الجاسر وعبدالكريم الجهيمان، هم الأقرب إلى النموذج الثاني الذي لا يخفي إ. سعيد انحيازه اليه. فهو نفسه كان بامكانه أن يظل أكاديمياً بارزاً في وسط جامعي ضيق، لكن انخراطه في قضايا وطنه الأصلي وثقافته الأصلية التي عانت كثيراً وطويلاً من سيطرة الثقافات الغربية هو الذي حوله إلى مفكر عالمي وإلى أحد أبرز المثقفين في النصف الثاني من القرن العشرين. حمد الجاسر يستحق بكل تأكيد لقب «علامة الجزيرة العربية»، لكنه يستحق أن يكون «العلامة الأبرز» في مرحلة من مراحل تطور خطابنا الإصلاحي لانشغاله المتصل المنتج بالمعرفة العقلانية الدينوية البشرية التي كان مجتمعنا ولايزال في أمس الحاجة اليها. الالحاح على هذه الصورة الغنية هو حق للجاسر وواجب على الباحث وحاجة للمجتمع، بقدرما يكون اهمالها أسطرة للشخص واختزال لمنجزاته وفصل تعسفي بينه وبين مجتمعه وتاريخه. ولا غناء هذه الصورة ذاتها هناك أسئلة يفترض أن تطرح للبحث والحوار الحر الخلاق: - ما هي تصوراته لقضايا فكرية عامة كالحرية والعدالة والتقدم.. الخ. - كيف كان يترجم هذه التصورات إلى مواقف عملية تكشف عن وعيه وتمسكه بحقوق الباحث والصحفي والمرأة والمواطن والإنسان عموماً؟ - ما الكتابات التي عبر فيها عن تلك التصورات والمواقف أكثر من غيرها، ثم أهي كلها منشورة أم لا؟.. وإذا لم تكن منشورة أو مكتوبة أليس من المهم المبادرة إلى تحصيل شهادات مباشرة من أسرته وأصدقائه وتلاميذه وزملائه المقربين منه؟ - من هم الكتاب والمثقفون الذين أثروا في وعيه وفكره كنماذج ثقافية وعلمية عليا وليس كمعلمين؟ - هل نطمح في ندوة ثانية تنظمها مؤسسة حمد الجاسر بالتعاون مع الجامعة للاجابة عن أسئلة كهذه؟. أم أن الجامعة ذاتها تحتاج إلى الإصلاح لتكون مؤهلة لعقد ندوة كهذه عن حمد الجاسر أو غيره؟! لا أدري، لكن. وبمناسبة ذكر الجامعة ومثقفيها، اسمحوا لي أن أنهي هذه الورقة بأفكار لادوارد سعيد متصلة كل الاتصال بما نحن بصدده. فمع تثمينه العالي للتوجهات الوطنية لجامعاتنا العربية في حقبة ما بعد الاستقلال، إلا انه يحدد بجرأة فكرية مثيرة للاعجاب والاحترام أهم المخاطر والتحديات التي تواجهها خلال العقود الأخيرة. فربط الجامعة بتوجهات النظم السياسية القائمة جعل الامتثال والولاء هما معيار الترقية والمناصب وليس التفوق الفكري والإداري، كما أنه جعل التوجس والافتقار للخيال والنزعات المحافظة الحذرة هي التي تحكم الممارسة الفكرية لجلّ المثقفين في مؤسسة أكاديمية كهذه. لهذا السبب يدعو المفكر نفسه إلى ضرورة إصلاح هذه الوضعيات عبر نقدها وعدم الخضوع الكلي لها، لأن تضافر السلطة والنزعة الدفاعية التمجيدية للذات الوطنية وتراثها «يكبح الفكر، ويشله أو يزيفه» في النهاية كما يقول. أما النموذج الأرقى عنده والأنسب للمثقف عموماً فهو «الباحث الرحالة» الذي يتخلى عن منطق القوة لصالح منطق الحركة لاكتشاف المزيد من العوالم واللغات والثقافات المختلفة ليعيش باستمرار على ايقاعات جديدة وطقوس متنوعة. المثقف الحق ليس هو الذي يحرس الحدود، بل من يخترقها ويعبرها طوال الوقت وبالتالي فهو نقيض الحاكم في كل شيء تقريباً. ولو نظمت ندوة عن حمد الجاسر فالمؤكد أنني سأشارك فيها ببحث عن حمد الجاسر المثقف الرحالة بهذا المعنى، لانه كذلك كان، ولانه النموذج الذي أبحث عنه وأحلم به باستمرار. ومن الغريب حقاً أن هذا النموذج الذي يحتفي به إ. سعيد وجيل ديلوز وجل الباحثين في الأدب المقارن، لم يكن غريباً قط على حياتنا وثقافتنا كما تعلمون، وفوق كل ذي علم عليم.