أكتب هذا المقال في صبيحة اليوم الثامن عشر من العدوان الصهيوني على غزة وقد مات صبيحة هذا اليوم أكثر من 38 مدنياً فلسطينياً ليزيد عدد الضحايا عن 700 شهيد، دماء رخيصة ليس لها ثمن، والعيد على الأبواب فنحن في اليوم السادس والعشرين من شهر رمضان وأيام العشر الأواخر عادة ما تكون أيام عبادة وسكون لكن في غزة الناس تصلي على أصوات الطائرات وهي تدك البيوت إنني أتخيل العيد في غزة وقد سكن بيوتها الموت واتشحت نساؤها بالسواد، صرت أتخيل أطفال غزة وهم يسألون عن آبائهم الذين قتلوا في معركة غير عادلة. كيف سيكبر هذا الجيل وماذا سيكون موقفه من الحياة والمستشفيات والمساجد. الناس هنا يصحون من نومهم وهم ينطقون الشهادة فالموت أقرب لهم من الحياة والعالم ماض في لهوه ولعبه ولا أحد يلتفت لهم فأقصى ما تقوم به الشعوب هذه الأيام هو رفع اللافتات في الشوارع أو الخروج على القنوات التلفزيونية للدفاع عن أطفال غزة الذين يحاصرهم الموت. لا أستطيع أن أقول إنني حزين وأنا أرى الانقسام العربي على غزة، فلأول مرة أشعر أن قضية فلسطين لم تعد قضيتنا الأولى، ولأول مرة أشعر أن هناك من يريد، من الناحية الأخلاقية، التخلص من هذه القضية فقد كانت تؤنب ضميره في يوم ويبدو أنه تعب من تأنيب الضمير وبدلا من أن يقوم بواجبه أراد قتل القضية ودفنها. حالة "التبرير" العربي محزنة جدا، لأنها تعبر عن العجز والتفكك والتشتت، حالة عربية أصعب من كل الحالات السابقة التي كان يهب فيها العرب ويجتمعون ويستنكرون ولا يخرجون بشيء لكنهم يعبرون عن الحد الأدنى الذي يجمعهم. هذه المرة، غزة تدك وأطفالها يتمزقون أشلاء بينما بعض العرب مازالوا يتحدثون عن "الأيديولوجيات" ويتشبثون بمبررات "المؤامرة" و "يشمتون" في شهداء غزة في حربهم غير العادلة ويشككون في أي نصر حتى لو كان بسيطا ومعنويا يحققه أبناء غزة ويتهمون بعضهم بعضا بصورة مضحكة. صرت أبحث في ملفاتي القديمة وكنت أذكر أنني في هذه الصحيفة قد نشرت مقالات حول غزة قبل عدة سنوات فقدر هذا الشريط المحاذي للبحر أن يكون في رباط إلى يوم القيامة، ووجدت مقال بعنوان "غزة: مدينة بلا سقف" نشرتها هنا في 3 يناير عام 2009م. وفعلا غزة سماؤها منتهكة من قبل العدو، فهي بلا سقف تنتهكها الطائرات الاسرائيلية بكل حرية، والطيارون اليهود الجبناء يعلمون أنه لن يعترضهم أحد، يقتلون النساء والأطفال في مخادعهم بدم بارد وهم يعلمون أنهم سيعودون إلى حظائرهم آمنين، أي جبن هذا وأي حرب غير عادلة هذه، لكنني على يقين أن دوام الحال من المحال وأن العجز الذي تعاني منه غزة سيكون مصدر قوة في المستقبل فإذا فقدت غزة الشهداء، فموتاها في الجنة وموتاهم في النار، لكن موازين القوة لا تدوم لأحد، ووجود شعلة المقاومة متقدة هي أمر مطلوب ومهم وأساسي، وطالما أننا مستمرون في المطالبة بحقوقنا المغتصبة سنعرف كيف نصنع النصر بإذن الله. صرت أردد: سوف أرميكم بكل حجر... وأعلم أبنائي أنكم سرقتم بلادي في السحر... وستقول لكم غزة... هيهات آل صهيون أن يكون لكم هنا مستقر.. لا أقول هذا القول من باب الحماس الذي لا معنى له بل من مراجعة سنن الله في الكون، فليس من المعقول أن نرضى بوجود اسرائيل بيننا دون مقاومة، حتى لو كنا ضعفاء، فمجرد أن يشعروا بأنهم غير مرغوب فيهم سوف ينغص عليهم حياتهم المصطنعة المزيفة التي بنوها لأنفسهم. إن بقاء شعرة المقاومة مهم جدا، وغزة هي من تمسك بهذه الشعرة ويجب على الجميع مساندتها والوقوف معها. أذكر قبل خمسة أعوام أنني قلت أن غزة محصنة "ضد الموت" وأن ضعفها سوف يتحول إلى قوة، وها هي هذه الأيام تضرب بصواريخها، التي كانت لا تتعدى بضعة كيلومترات قبل سنوات، تل أبيب ومطار بن غوريون. لم تعد غزة بلا سقف وقد طالت يديها وصارت تكشف سقف العدو. كل ما أود أن أذكر به الأعداء والأصدقاء هو قول الله "وتلك الأيام نداولها بين الناس" وهي قاعدة إنسانية لا يمكن أن تكسر، وضعف غزة اليوم سيتحول إلى قوة في الغد. ما يحزنني هو هذا اللغط الذي يدور حول العروبة بسبب خذلان العرب لغزة، العروبة تتهم ويحاول البعض أن يهيل عليها التراب بسبب هذا الصمت العربي المريب، لكن يجب أن أذكر هنا أن "العروبة" شيء وواقع العرب شيء آخر. العروبة رمز سيبقى وسيظل إلى الأبد مهما رفضنا واقعنا المزري ومهما حاول البعض أن يلعن هذا الرمز، وغزة حتى لو خذلها العرب هذه الأيام ستظل جزءاً من جسد الأمة ورمز من رموزها. من يحاول أن ينتقد الواقع العربي فهذا من حقه، لكن يجب أن لا يطاول النقد أساس الوجود، فالمبالغة في جلد الذات لا تجدي ولن تحدث أي تغيير ولن تصحي العرب من غفوتهم، فالظرف التاريخي الذي نمر به جميعا غير موات ورياحنا معاكسة، والضغط النفسي الذي تصنعه أحداث غزة فوق الاحتمال، لكن يجب أن نضع في اعتبارنا جميعا أن العروبة خط أحمر يجب أن لا نتجاوزه، لأن الشعوب قد تنتقد الاحداث والرجال لكنها لا تمس المسلمات خصوصا تلك التي تربطهم بالوجود وتحدد هويتهم. تكشف غزة الغطاء... تدفعنا دون إبطاء... إلى تاريخ مضى... تذكرنا... بصلاح الدين...وتاريخ عربي... تملؤه العزة ويصنعه الإباء... تقول ونفسها يتقطع.. وعويل أطفالها يعصر القلب... تلطخ وجوههم الدماء... مهما مزقوا أحشائي إلى أشلاء... سأبقى بوابة للحياة... وسأجعل حياتهم سوداء... إنني أتخيل العيد في غزة وقد سكن بيوتها الموت واتشحت نساؤها بالسواد، صرت أتخيل أطفال غزة وهم يسألون عن آبائهم الذين قتلوا في معركة غير عادلة. كيف سيكبر هذا الجيل وماذا سيكون موقفه من الحياة. صرت أقول لنفسي كم مرة يجب أن تدفع غزة وأبناؤها الثمن حتى تتغير الصورة القاتمة التي نراها اليوم، لكن لا أجد جواباً لهذا السؤال الوجودي المستمر.