ليست هذه المرة الأولى التي تنكشف فيها غزة ولن تكون الأخيرة، هذه المدينة التي نسيت أن تغطي نفسها ولم تجد يدا حانية تغطيها، مدينة بلا سقف وبلا حماية تجوب في سمائها كل "الحشرات" المعادية تطير فوقها وتلقي بسمومها، تقتل أطفالها ونساءها ولا أحد يوقفها. مدينة مستباحة للعدو ومحاصرة بالأصدقاء الذين يريدون خنقها فقد تعبوا من مقاومتها ومن قدرتها على الحياة بل ومن حبها لهذه الحياة "التعسة" الممتلئة بالدم لكنها تحبها وتدافع عنها، لقد مل أصدقاءها هذا الحب إلى درجة أنهم صاروا يتمنون موتها. لكنها غزة التي وقفت في وجه "التتار" تحمل صورة "عين جالوت" التي أعادت لهذه الأمة حياتها وصنعت تاريخها من جديد. انها مدينة تصر على الحياة وترفض الموت رغم شراسة العدو ولؤم الصديق ستظل هذه المدينة موطن المقاومة، وستظل المكان الذي يحمل النفوس الكبيرة التي "عاشرت" الموت حتى أصبح جزءا من الحياة اليومية. مدينة لا تخاف الموت بل لا تملك الفرصة كي تخاف من الموت فلم تتح لها فرصة أن تهنأ بالحياة التي تحبها فحياتها تختلط بها رائحة الموت، فماذا تخاف ما تعيشه يوميا. كل إنسان في هذه المدينة يبدو مستعدا لفقد الحياة، ينظر لسقف المدينة المكشوف ويعرف أنه بغير حماية لكنه ينظر إلى ما هو أبعد من السقف إلى السماء إلى خالق الكون ويقول ونفسه (بفتح الفاء) يتقطع "حسبنا الله ونعم الوكيل" و "الله المستعان على ما يصفون" فنعم بالله، فإن كانت غزة لا سقف لها وسماؤها مفتوحة للأعداء وجدرانها سميكة خانقة لا تجعلها تتنفس، إلا أن التاريخ يقول "انهم سيذهبون وستبقى غزة"، فهي تخزن "نفسَها" الضيق لحياة أطول، فهي مدينة تستخدم كل مواردها الشحيحة (حتى نفسَها المتقطع والمنهك) كي تقاوم وكي تحيا حياة أطول وكي تغيظ الأعداء وتخيب أمل الأصدقاء الذين ضاقوا بها وتمنوا لها الموت دون جدوى. هل رأيتم مدينة تعيش الأحلام رغم أنها لا تنام، فأحلامها في اليقظة فقط، أحلام تختلط بالواقع المر المستمر، أحلام تقطعها أصوات الانفجارات التي تحدثها "الطيور" الجبانة التي تلقي بحملها وتهرب، هذه الطيور تعرف أن من يسكن غزة لا يملك أن يرد عليها أو يسقطها، فرغم أن بيوت غزة بلا أسقف والطيور الخبيثة على مرمى حجر من تلك البيوت إلا أن غزة لا تملك الحجر الذي يسقط هذه الطيور الغازية. مدينة محاصرة في كل شيء ومحرومة من كل شيء إلا من الأمل فنفوس أهلها يملؤها الأمل، والناس فيها يتطلعون للعام الجديد وقلوبهم متعلقة بالفرج رغم أن أصوات الانفجارات تصم آذانهم. لا أستطيع مشاهدة الأخبار ولا أتحمل المشاهد المأساوية في غزة فحتى كتابة هذا المقال (مطلع العام الميلادي الجديد والجيش الإسرائيلي يقوم بهجمة شرسة صباح أول يوم في العام الجديد) سقط 400شهيد وأصيب أكثر من 2000والحكومة الإسرائيلية المصغرة تجتمع وعلى وجه أولمرت وباراك ابتسامات عريضة. أي خسة هذه وأي سقوط عن الدرك الأسفل من الانسانية. سيدة العالم (أمريكا) تلوم حماس على إطلاقها الصواريخ على المدن اليهودية وهي صواريخ لاتقتل أحدا مع أن (أمريكا) لا تلوم من يقتل من أجل الدفاع عن النفس ولا تحاكمه، فأي معايير هذه التي تحكمنا. أهذه "نهاية التاريخ" التي بشر بها (فوكوياما) فعلا انها نهاية تاريخ الانسانية فالتاريخ لن يتوقف عند حضارة "خسيسة" لا تعرف معنى "الحق". ربما يجب على سيدة العالم ان تتعلم من سيرة صلاح الدين الذي عفا وصفح عن أعدائه (ومن عفا وأصفح فأجره على الله)، حضارتنا وثقافتنا تحكمها الانسانية ويهيمن عليها الحق. لا أستطيع مشاهدة الأخبار فأنا لا أتحمل رؤية الاطفال ورؤوسهم متفجرة برصاص الوحوش ولا أتحمل مشاهدة النساء وهن يبكين رجالهن الابرياء. وهذه أنانية مني لكني لا أستطيع فعل شيء سوى الدعاء وكتمان القهر. مشاهدة الأخبار تزيدني اكتئابا وتجعلني لا أشعر بطعم الحياة التي أصبحت "فارغة" ودون طعم. لا أستطيع مشاهدة الأخبار التي تقول ان القمة العربية لن تعقد (رغم أنني لا اعتقد أن القمة العربية ضرورية لأنها ليست مهمة ولن يكون لها أي تأثير إلا تأثيرها المعنوي، فعلى الأقل يشعر الغزاويون أن هناك من يناصرهم). لا أستطيع أن أتحمل مشاهدة العالم الذي يصمت على الظلم لكني أشعر بأن هذا العالم بحاجة لنا، فعلا يحتاج إلى مبادئنا العادلة التي لم نستطع أن نطبقها حتى على أنفسنا ويحتاج إلى إنسانيتنا التي فقدناها. غزة، أدعو لك بالنصر ونصرك في صبرك واحتسابك، فلا العتاد يكفي ولا الاصدقاء سيهبون لنصرتك، أدعو لك بالصبر على كيد الأعداء وغدر الاصدقاء، فليس لك إلا الصبر ولا نستطيع لك شيئا سوى البكاء. كنا نتمنى أن نمد أيدينا لنصنع لسمائك سقفا يحميك لكن "أيدينا قصيرة" لا تستطيع الوصول إلى هامتك المرتفعة. اعذرينا فنحن أعجز من أن نتسلق جدرانك ونصل إليك فأنت محصنة ضد الاصدقاء ومستباحة للأعداء. غزة، يحزنني أنك بلا سقف وأنك تقدمين قرابينك اليومية دون أن يقدم لك أحد شيئا، يحزنني أنك في برد الشتاء لا تجدين غطاء، لكنه ثمن المقاومة. تأكدي، غزة، أن الاعداء يعضون على أصابعهم "قهرا" وهم يشاهدونك تذبحين ولا تموتين، يعيدون حساباتهم كل مرة ويراجعون كل نظرياتهم ويدهشهم استمرارك في الحياة ومقاومتك للموت، رغم ذبحهم لك ألف مرة. تأكد لديهم أنك "ضد الموت" وليس أمامهم إلا القبول بحياتك. أدعو لك بالصبر، فمصيرك الحياة ومصيرهم الموت.