عبد يغوث وهو عبد يغوث ابن صلاة ابن ربيعة، من بني الحارث ابن كعب من قحطان، شاعر جاهلي يماني وفارس معدود، وقد أسر في إحدى غزواته، فخيّر كيف يرغب أن يموت، فاختار أن يشرب الخمر صرفا ويقطع عرقه الأكحل، فمات نزفا، وقد رثا نفسه في سرد جميل ومؤثر ألا لا تلوماني كفى اللوم ما بيا وما لكما في اللوم خير ولا ليا ألم تعلما أنّ الملامة نفعها قليل وما لومي أخي من شماليا فيا راكبا إمّا عرضت فبلغن نداماي من نجران ألاّ تلاقيا أبا كرب والأيهمين كليهما وقيسا بأعلى حضرموت اليمانيا ولو شئت نجتني من الموت نهدة ترى خلفها الحوّ الجياد تواليا ولكنني أحمي ذمار أبيكم وكان الرماح يختطفن المحاميا وتضحك منّي شيخة عبشمية كأن لم ترَ قبلي أسيرا يمانيا أقول وقد شدّوا لساني بنسعة أمعشر تيم أطلقوا عن لسانيا أمعشر تيم قد ملكتم فاسجحوا فإنّ أخاكم لم يكن من بوائيا فإن تقتلوني تقتلوا بي سيّدا وإن تطلقوني تحربوني بماليا وكنت إذا ما الخيل شمّصها القنا لبيق بتصريف القناة بنانيا فيا عاص فكّ القيد عنّي فإنني صبور على مرّ الحوادث ناكيا أحقا عباد الله أن لست سامعا نشيد الرعاء المعزين المتاليا وقد كنت نحار الجزور ومعمل المطيّ وأمضي حيث لاحيّ ماضيا وأنحر للشرب الكرام مطيّتي وأصدع بين القينتين ردائيا كأنّي لم أركب جوادا ولم أقل لخيلي كرّي نفسي عن رجاليا ولم أسبأ الزقّ الرويّ ولم أقل لأيسار صدق أعظموا ضوء ناريا الحوّ: المطوية البطن، العبشمية: الشديدة وفقا للسياق ويلاحظ استخدام كلمة شيخة بدلا من عجوز والعادة أنّ المعمرة يطلق عليها عجوز والمعمر يطلق عليه شيخ « وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا »، شمّس: نخس، وكلا وكلتا هذه مثل حتى أقضّت مضج النحاة، وقد درج النحاة على رفع كلمتي «كلا» و«كلتا» مهما كان إعرابهما إن رفعا وإن نصبا أو جرّا، فيقولون: - جاء كلا الفريقان ورأيت كلا الفريقين وشاهدت كلتا المتنافستين، على أنها إذا لم تضف فتعرب إعراب المثنى فيقال: رأيت الفريقين كليهما، أو كما في بيت عبد يغوث: فبلغن.. أبا كرب والأيهمين كليهما، والفعل يأتي في الغالب بعدهما مفردا: "كلتا الجنتين آتت أكلها" ونعود إلى الأبيات، فهي تصف سمات الرجل الجاهلي ومزاجه، فهو شجاع مقدام في الوغى، ويؤثر الأسر أو الموت على الخذلان والفرار، ولا يجزع أمام الموت، ثمّ إنه كريم، ويتمثل الكرم في بذل الخمر للشاربين كما يقول طرفة متى تأتني أصبحك كأسا روية وإن كنت عنها في غنى فاغن وازدد كما يقول كريم يروّي نفسه في حياته ستعلم إن متنا غدا أيّنا الصدي وعبد يغوث يقول: «ولم اسبأ الزقّ الرويّ » ومن مظاهر الكرم الميسر وذبح الذبائح وإعلاء النار لكي يراها العفاة « أعظموا ضوء ناريا » ومرثية النفس هذه لا يضاهيها في الشعر العربي سوى قصيدة مالك ابن الريب التي يرثي فيها نفسه، وفيها تناص واضح مع قصيدة عبد يغوث كما أنّ القافية واحدة في القصيدتين، وليس من المستبعد إن لم يكن المحقق أنّ مالكا حين نظم قصيدته كانت في ذهنه قصيدة عبد يغوث، لأنّ القصيدتين من قبيل وقع الحافر على الحافر،، ومالك ابن الريب تميمي، وكان شجاعا ومن قطاع الطرق ولازم شظاظا الضبي الذي قالت العرب عنه ألصّ من شظاظ، وفي يوم مرّ عليه سعيد ابن عثمان ابن عفان وهو متوجه لإخماد فتنة في خراسان فتوجه معه بعد أن اقتنع بوجوب الجهاد في سبيل الإسلام، وفي طريق عودته يقال إنّ افعى لسعته، وعندما أحسّ بدنوّ الموت نظم قصيدته التي يقول فيها ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة بجنب الغضاء أزجي القلاص النواجيا فليت الغضا لم يقطع الركب عرضه وليت الغضا ماشى الركاب لياليا لقد كان في أهل الغضا لو دنا الغضا مزار ولكنّ الغضا ليس دانيا ثمّ يبدأ السرد ألم ترني بعت الضلالة بالهدى وأصبحت في جيش ابن عفان غازيا وأصبحت في أرض الأعادي بعدما أراني عن أرض الأعادي قاصيا دعاني الهوى من أهل ودّي وصحبتي بذي الطبسين فالتفتّ ورائيا أجبت الهوى لمّا دعاني بزفرة تقنعت منها أن ألام ردائيا أقول وقد حالت كرى الكرد بيننا جزى الله عمرا خير ما كان جازيا إن الله يرجعني من الغزو لا أرى وإن قلّ مالي طالبا ما ورائيا تقول ابنتي لمّا رأت طول رحلتي سفارك هذا تاركا لا أبا ليا لعمري لئن غالت خراسان هامتي لقد كنت عن بابي خراسان نائيا فإن أنج من بابي خراسان لا أعد إليها وإن منيتموني الأمانيا ثمّ يقول وأنا أتجاوز بعض الأبيات التي فيها وصف وليس سردا تذكرت من يبكي عليّ فلم أجد سوى السيف والرمح الردينيّ باكيا ولكن بأطراف السّمينة نسوة عزيز عليهنّ العشية ما بيا صريع على أيدي الرجال بقفرة يسوّون لحدي حيث حمّ قضائيا ولمّا تراءت عند مرو منيتي وحلّ بها جسمي وحانت وفاتيا أقول لأصحابي ارفعوني فإنّني يقرّ بعيني أن سهيل بدا ليا فيا صاحبي رحلي دنا الموت فانزلا برابية إنّي مقيم لياليا أقيما عليّ اليوم أو بعض ليلة ولا تعجلاني قد تبين ما بيا وقوما إذا ما استلّ روحي فهيّئا لي القبر والأكفان ثمّ أبكيا ليا وخطّا بأطراف الأسنة مضجعي وردّا على عينيّ فضل ردائيا ولا تحسداني بارك الله فيكما من الأرض ذات العرض أن توسعا ليا خذاني فجرّاني ببردي إليكما فقد كنت قبل اليوم صعبا قياديا وأتجاوز بعض الأبيات التي يفتخر فيها بنفسه وقوما على بئر الشبيكيّ فأسمعا بها الوحش والبيض الحسان الروانيا بأنكما خلفتماني بقفرة تهيل عليّ الريح فيها السوافيا ولا تنسيا عهدي خليلاي إنني تقطع أوصالي وتبلى عظاميا يقولون لا تبعد وهم يدفنوني وأين مكان البعد إلاّ مكانيا غداة غد يالهف نفسي على غد إذا أدلجوا عني وخلفت ثاويا ثمّ نأتي إلى هذا البيت فيا راكبا إمّا عرضت فبلغن بني مالك والريب ألاّ تلاقيا ولا حظ التناص الكامل بينه وبين بيت عبد يغوث فيا راكبا إما عرضت فبلغن نداماي من نجران ألاّ تلاقيا وإذا كان هناك تناص بين القصيدتين، فإنه لا ينفي أن القاموس اللغوي يختلف بعض الاختلاف بينهما، ففي قصيدة عبد يغوث احتجت إلى أن أرجع إلى بعض المعاجم للتعرف على معنى بعض المفردات، بينما لم تدع الحاجة إلى ذلك بالنسبة لقصيدة مالك ابن الريب، مما يقطع بأنّ هناك شعرا قيل في العصر الأول من الإسلام ومرجعيته النصية بجانب الشعر الجاهلي هي القرآن، وشعر آخر قيل في العصر الجاهلي وقد يسأل سائل عن مرجعية هذا الشعر، ومعه الحق، فلا شيء ينشأ من فراغ، وأقول له إنه كان هناك شعر قبله وصل إلينا بعضه، ولكنه لا يصل إلى مرتبة القصائد الطوال، ويقال إنّ أول من نظم هذه هو المهلهل، وكلّ شعر في العالم له سوابق وإرهاصات فأمرؤ القيس يقول: عوجا على الطلل المحيل لعلنا نبكي الديار كما بكى ابن حزام أي إنّ ثمة من قال شعرا وبكى الديار قبله، ونجد مثيلا لذلك في الآداب الأخرى فالإلياذة ليست من تأليف هوميروس، وإنما مجموعة من الحكايات الشعبية ضاربة في القدم وقام هوميروس بتجميعها وأنا أميل إلى الأخذ بهذا القول، ونعود إلى الشعر الجاهلي بعد أن أبعدنا عنه التناص مع مالك ابن الريب، ولو إنّ هذه العودة مشكوك فيها، فسنتحدث عن شاعر اختلف الرواة والمحققون في العصر الذي ينتمي إليه، فقال بعضهم إنه جاهلي وقال آخرون إنه تابعي، والأرجح أنه جاهلي، والشاعر هو كعب ابن سعد الغنوي، ولن نبتعد عن المرثيات، فمرثيته من أشهر وأروع المرثيات في الشعر العربي ويقارنه الرواة بالخنساء التي رثت أخاها صخر، تماما مثل كعب الذي رثى أخاه الذي قتل في أحد الغزوات، وقد قال أبو هلال العسكري، وفقا لأحد المراجع ( الموسوعة الحرة على الانترنت ): «ليس للعرب مرثية أجود من قصيدة كعب ابن سعد » وكما لن نبتعد عن المرثيات فإننا لن نبتعد عن السرد تقول سليمى ما لجسمك شاحبا كأنك يحميك الشراب طبيب تتابع أحداث تخرمن إخوتي وشيبن رأسي والخطوب تشيب أخ كان يكفيني وكان يعينني على نائبات الدهر حين تنوب فلو كان ميت يفتدى لفديته بما لم تكن عنه النفوس تطيب أخي ما أخي لا فاحش عند بيته ولا ورع عند اللقاء هيوب حليف الندى يدعو الندى فيجيبه سريعا ويدعوه الندى فيجيب أخو شتوات يعلم الحيّ أنه سيكثر مافي قدره ويطيب كأنّ بيوت الحيّ ما لم يكن بها بسابس قفر ما بهنّ عريب غنينا بخير حقبة ثمّ جلجلت علينا التي كلّ الأنام تصيب فأبقت قليلا ذاهبا وتجهزت لآخر والراجي الحياة كذوب وأعلم أنّ الباقي الحيّ منهم إلى أجل أقصى مداه قريب وفي هذه الأبيات نجد سمات الرجل الجاهلي وصفاته، وأهمها الكرم والشجاعة والإقدام، فهو حليف الندى، وغير هيوب عند اللقاء في الحرب، ثمّ نجد هذا البيت الذي ينمّ عن ايمان الجاهلي بالموت المحتوم، والاقتناع بألاّ مهرب من الخطوب وريب الزمان غنينا بخيرثمّ جلجلت علينا التي كانت كلّ الأنام تصيب ولعلّ القارئ يتذكر ما قاله عديّ ابن زيد عمروا دهرا بعيش حسن آمني دهرهم غير عجال ثمّ أضحوا عصف الدهر بهم وكذاك الدهر يودي بالرجال وهناك أيضا عدم الجزع من نوائب الدهر، وهو ماعبّر عند لبيد أتجزع مما أحدث الدهر بالفتى وأيّ كريم لم تصبه القوارع ويمكن أن نصدر حكما عاما على الجاهليين بأنهم قدريون،، وهو ما يتضح من بيت عمرو ابن كلثوم وأنّا سوف تدركنا المنايا مقدرة لنا ومقدرينا والمنية هي القدر، وفي القرآن الكريم: «ألم يك نطفة من منيّ يمنى» و«ومن نطفة إذا تمنى» أي يقدّر لها، والشاعر يقول «حتى يمني لك الماني».. وللنثار بقية..