قريحة الشاعر تظل فائرة منذ بدء تخلق الشعر في جوفه إلى أن تتبدى لناظريه طلائع التوديع عن هذه الدنيا. ولذا كان الشعراء هم أوفر أهل البيان حظاً في تسجيل حالات الشعور الإنسانية المختلفة التي تمر على النفس البشرية طيلة حياتها، وهذا يكون إما عن تجربة منهم لهذه الحالات أو وصف لها عند مشاهدتها. ومما لا يذروه شيء من الريب أو الشك بأن الموت وملاقاته هو نهاية هذه المشاهد البشرية، وهو أيضاً آخر أحوالها، وكذلك هو أصعب لحظاتها على الإطلاق – وبالرغم من ذلك كله فقد استطاع شعراء العربية من أن يسجلوا شيئاً عن مشاعرهم في تلكم اللحظات الصعبة، وذلك من خلال قصائد متعددة الأغراض، متنوعة المشاعر، عبر مراحل تاريخية مختلفة؛ بدءاً من حقبة الجاهلية، مروراً بصدر الإسلام وما تلاه من عصور مختلفة، وصولاً في نهاية المطاف إلى مرحلة الشعر النبطي أو الشعبي. محمد السديري مما لا جديد فيه بأنّ هذا المنحى الشعوري قد احتطب منه العديد من البحاثة والنقاد الكثيرَ من القصائد والأبيات والمقالات المتفرقة تحت عنوان رئيسٍ ثابت هو " رثاء النفس ". ولكن علّنا في هذه العجالة أن نتوسع شيئاً قليلاً عن هذا الإطار؛ لنسلط الضوء على الأبيات التي قيلت على فراش الموت بصفة عامة ولمقاصد مختلفة دونما تخصيص في ذلك لرثاء النفس فقط... وأن يكون الشرط هاهنا هو إيراد الأبيات التي قد نظمها الشعراء قبل موتهم بلحظات أو أيام قليلة لأغراض مختلفة، بمشاعر متنوعة، وأساليب خاصة. مرشد البذال بحسب ابن قتيبة وغيره؛ فإن أول من بكى نفسه من الشعراء هو يزيد بن حذاق، إذ قال أبياتاً يتوجع فيها من الفناء، ويصف حال المرء عند موته وما بعد موته، فقال: هل للفتى من بنات الدهر من واقي أم هل له من حِمام الموت من واقي قد رجلوني وما بالشعر من شعث وألبسوني ثياباً غيرُ أخلاقِ وطيبوني وقالوا أيما رجل وأدرجوني كأني طي مخراقِ وأرسلوا فتية من خيرهم حسبا ليسندوا في ضريح القبر إطباقي وقسموا المال وارفضت عوائدهم وقال قائلهم مات ابن حذاقِ هون عليك ولا تولع بإشفاق فإنما مالنا للوارث الباقي! حمد هادي المسردي وتتابع بعد ابن حذاق شعراء العربية في فيض القريحة مع إفاضة الروح، فنجد امرئ القيس يجود بنفسه ويقول مخاطباً قبر امرأة غريبة تحت سفح جبل " عسيب " الذي مات عنده: أجَارتنَا إنَّ الخُطُوبَ تنوبُ وإني مُقيمٌ ما أقامَ عسيبُ أجَارتنَا إنَّا غريبانِ هَهُنَا وكلُّ غريبٍ للغريبِ نسيبُ فإنْ تصِلِينا فالقرابة بيننا وإن تصرمينا فالغريبُ غريبُ أجَارتنَا ما فاتَ ليسَ يَؤُوبُ ومَاهو آتٍ في الزَّمانِ قَريبُ وليس غريبًا مَنْ تناءت دِيارُهُ ولكنْ مَنْ وَارَى التُّراب غريبُ وممن قد قال شعراً في الجاهلية عند موته كان عبد يغوث الحارثي بعد أن أسرته بنو تيم، فطلب منهم قتلةً سألهم إياها، وهي أن يسقوه خمراً ثم يتركوه ينوح على نفسه، فأعطوه ما طلب، ثم قطعوا منه عرقاً يقال له الأكحل، وتركوه بعدها، فقال عندئذ أبياتاً طويلة، كان صدرها: لا لا تَلوماني كَفى اللَومَ ما بِيا وَما لَكُما في اللَومِ خَيرٌ وَلا لِيا أَلَم تَعلَما أَنَّ المَلامَةَ نَفعُها قَليل وَما لَومي أَخي مِن شمالِيا فَيا راكِباً إِمّا عَرَضتَ فَبَلَّغَن نَدامايَ مِن نَجرانَ أَن لا تَلاقِيا وممن قال شعراً على فراش الموت كان لبيد بن ربيعة والذي خاطب ابنتيه بأبيات، كان أولها: تمنَّى ابنتايَ أنْ يعيشَ أبوهُمَا وهل أنا إلا مِن ربيعةَ أو مُضَرْ ونائحتانَ تندبانَ بِعَاقلٍ أخا ثقةٍ لا عينَ منهُ وَلا أَثَرْ والشيء بالشيء يذكر فإن مما هو ملاحظ في قصائد الشعراء على فراش الموت بأن ذكر البنات يكون حاضراً لمن كان له ذرية منهن، فنجد عبدة الطيب يسير على إثر لبيد في ذكر البنات والتوجد عليهن بقوله عند موته: ولقد علمتُ بأنَّ قصري حٌفرةً غبراءُ يحملُني إليها شَرْجَعُ فبكَّى بناتي شَجْوَهُنَّ وزوجتي والأقربونَ إليَّ ثم تصدَّعُوا وكذا فعل الشاعر مالك بن الريب صاحب أشهر قصيدة قيلت على فراش الموت؛ إذ لم يغب عنه ذكر ابنته في تلكم القصيدة الخالدة، فقال : تقول ابنتي لما رأت طول رحلتي سفارك هذا تاركي لا أبا ليا! وعلى هذا الوجد وذا الشجن في تذكر البنات على فراش الموت كان الأمير الفارس الشاعر أبو فراس الحمداني، والذي قد خاطب ابنته على فراش الموت بهذه الأبيات: أبنيتي لا تجزعي كل الأنام إلى ذهاب أبنيتي صبرا جميلا للجليل من المصاب نوحي علي بحسرة من خلف سترك والحجاب الشاعر العباسي أبو نواس، تراءت له منيته في مرضه الذي مات فيه، فقال هذه الأبيات على فراش الموت وقبيل نزوله: دَبَّ فِيَّ الفَناءِ سُفلاً وَعُلوا وَأَراني أَموتُ عُضواً فَعُضوا لَيسَ مِن ساعَةٍ مَضَت لِيَ إِلّا نَقَصَتني بِمَرِّها بِيَ جُزوا ذَهَبَت جِدَّتي بِطاعَةِ نَفسي وَتَذَكَّرتُ طاعَةَ اللَهِ نِضوا وأخيراً فلعل آخر ما وصلنا من أبيات الشعر الفصيح على فراش الموت هي أبيات الوزير والشاعر السعودي غازي القصيبي، والتي قد قالها في مرضه الذي مات منه ، وفيها هذه الأبيات: أغالب الليل الحزين الطويل أغالب الداء المقيم الوبيل أغالب الآلام مهما طغت بحسبي الله ونعم الوكيل فحسبي الله قبيل الشروق وحسبي الله بُعيد الأصيل وإذا صرفنا أبصارنا تلقاء الشعر الشعبي؛ فإن عدداً من شعرائه قد حضرتهم قريحة الشعر على فراش الموت، ولعلنا نستفتح نافذتهم بالشاعر الفارس نمر بن عدوان، والذي قد نسبت له هذه الأبيات في نزعه الأخير، إذ قال مخاطباً بها رسل الموت من الملائكة حين تخيلهم: أنتم طروش الموت منتم خفيين يامرحبا بالحق لا صار لافي إن جوا هل الديره وقالوا نمر وين قولوا نمر في سكرة الموت غافي إلى هذا فإنّ صفات الشاعر في حياته قد تطفح عليه لحظة وفاته ، فنجد الأمير الجسور محمد الأحمد السديري يقول هذه الأبيات مخاطباً بهاالأمير سلطان بن عبدالعزيز – رحمهم الله أجمعين - لما زاره في المستشفى قبل وفاته بخمسة أيام: سلطان شفت الموت مره ومره والثالثة يامير كشّر بنابه ما بيه لكنه بلاني بشره زود على خيله يجمع ركابه وعلى هذه الرغبة في عدم ملاقاة الموت كان الشاعر الشعبي المعروف مرشد البذال الذي قال قصيدته الأخيرة في غرفة الانعاش، استفتحها بقوله: لا حول أظن الموت جتني اطروشه جتني مطاليبه وأنا عنّه منحاش إلى أن قال: خليت ديواني ومجلاس حوشه واليوم شفني جالس بدار الانعاش والنفس ضاقت عقب ماهي بشوشه مثل المقيم اللي عن النو مطراش وعلى هذا النحو قد مضى الشاعر حمد هادي المسردي إذ كانت هذه الأبيات هي آخر ما قال في مرضه الذي مات فيه: أشوف الموت حيٍ في شليلي ولو نفسي بعد يقرع نسمها أنا مني دنا الموت المزيلي تمركز فوق لنفاس وكتمها وفي نفس هذا الميدان قد جرت أبيات الشاعر نمر السحيمي الحربي والذي قال هذه الأبيات على فراش الموت: جاني وأنا في وسط ربعي وناسي جاني نشلني مثل ماينشل الناس مني نشل روحٍ تشيل المآسي تشكي من أيام الشقا تشكي اليأس وللشاعرات نصيب مفروض من هذه الحالة الشعورية وهذا الموقف الصعب، إذ نجد الشاعرة عابرة سبيل تنظم أبياتاً حزينةً تسندها إلى زوجها الذي كان قد أقام لها وليمة عشاء بعد خروجها المتعثر والمتكرر من المستشفى إثر مرض خطير، فقالت هذه الأبيات في مرضها الذي ماتت منه تسندها إلى زوجها: أخذ وصاتي وأمانه لا تبكيني لو كان لك خاطر ما ودي إزعاجه أبيك في يديك تشهدني وتسقيني أمانتك لا يجي جسمي بثلاجة لف الكفن في يديك وضف رجليني ما غيرك أحد كشف حسناه وإحراجه ونختم بالشاعر مرزوق المطرفي الذي أنشأ قصيدة طويلة على فراش الموت قبل وفاته بأيام قليلة، وخاتمتها كانت هذه الأبيات التي قد بث فيها أمنيته الأخيرة قبل خروج الروح: العود قفّا ويطلب ربه اللي عطاه لي طلبةٍ يا إلهي ما أنثني دونها أطلبك شربة من الكوثر ومطعوم ماه ومنازل أهل الرضا يا لهلت هتونها ونخلص مما سبق في هذا المبحث السريع بأن أغراض الشعراء قد اختلفت في قصائدهم التي قالوها في سياقة الموت، فمنها ما قد جاء على هيئة رثاء للنفس، ومنها ما كان وصفاً لحال الأهل بعد فقده أو وصاةً لهم، ومنها ما يكون شجاعة وحماسة لملاقاته أو وصفاً لشدته وبأسه، ومنها – وهو الأغلب - ما يكون وصية للتزود بالعمل الصالح والفعل النبيل مع رجاء المغفرة والرضوان من الرحمن الرحيم. أحمد الناصر