عراق ما بعد اجتياحات الثوار من العشائر وتنظيم «داعش» يختلف عما قبلها، وسورية تكاد تواجه ذات المصير.. وليس من المتوقع لدى كثير من المحللين أن تكون استعادة تلك المناطق لصالح نظام المالكي سهلة أو ممكنة.. والإدارة الأمريكية تدرك تلك الصعوبات.. هل نحن مقبلون على تغيير الخرائط في المنطقة؟ هذا الذي يحدث في المنطقة العربية.. ألن يترتب عليه تقسيم محتمل ومحتمل جداً في ظل تطورات الأوضاع على الأرض؟ هل الخريطة التي نشرتها قبل أيام مجلة التايم الأمريكية، تعبر عن تصور مراكز بحوث أو مراكز صناعة قرار في الولاياتالمتحدة لجغرافية سياسية محتملة أو يمكن التعامل معها أو القبول بها كأمر واقع... أم هي جزء من مخطط فعلي لوضع المنطقة في عهدة سايكس بيكو جديدة، حيث تظهر الحدود الجغرافية السياسية على أساس التقسيم القومي والطائفي..؟ وهل سيكون هذا هو الخيار الأخير في أجندة الإدارة الأمريكية في حال الفشل في استعادة وحدة العراق وسورية بعد هذا الخراب الكبير؟ تلك الأسئلة تدق بقوة هذه الأيام.. ونحن نراقب تصريحات ومواقف وتحذيرات توحي بإمكانية القبول بالأمر الواقع في حال عدم التمكن من استعادة تلك البلدان العربية لوحدة أراضيها وشعوبها.. خاصة، وأن المؤشرات على الأرض تنطوي على ارتباك كبير حيال إمكانية تقسيم المشرق العربي (العراق وسورية) إلى دولة كردية وأخرى سنية وثالثة شيعية وأخرى علوية.. حتى لو لم تتبلور بعد وسط هذا الصراع الدامي. تتفاعل على الأرض ملامح حراك سريع وأحياناً غامض. فلا أحد يعرف اليوم على وجه التحديد ما تلك القوى التي انبثقت فجأة لتسقط أجزاء واسعة من العراق تُغلب الطابع المذهبي الواحد.. ولا أحد يستطيع أن يبرر ذلك الحراك الكردي الذي يهدد دائماً بالاستقلال عن جسد العراق التاريخي، ويكاد ينعم وحده بنمو اقتصادي وأمن نسبي وتدفق الثروة عبر تسهيلات تصدير النفط والغاز عبر تركيا.. وظل يسيطر على نقطة حدودية الأكثر اقتراباً من المجموع الكردي في سورية.. وكأنه ينتظر الفرصة المناسبة لضم تلك الأجزاء في دولة القومية الكردية. وليس بعيداً تلك النزعة الشيعية التي بدأت أصواتها تعلو للحفاظ على المناطق التي تقطنها الأغلبية الشيعية بالعراق مع محاولة تصفية الوجود السني في تلك المناطق عبر التهديد والتضييق والتهجير.. ومن بغداد إلى البصرة. هل نحن اليوم في الفصل الأول الذي سيكون مقدمة لإعلان التقسيم.. الذي بات البعض يراه حلاً تحت وطأة القهر والقمع وانعدام إمكانية التعايش بين الفرقاء المذهبيين؟! تكتب صحيفة الواشنطن بوست: "تقسيم العراق أضحى عنواناً متداولاً في الأوساط السياسية الأمريكية.. وأن الأحداث التي بدأت مع الغزو الأمريكي في 2003 يبدو أنها ستنتهي الآن بإعادة رسم خارطة الشرق الأوسط وستبقى حكومة بغداد مسيطرة على دويلة صغيرة". وتضيف الصحيفة، ان هدف السياسة الأمريكية في هذه المرحلة على الحد من تداعيات الكارثة وليس ملاحقة وهم دولة عراقية موحدة وديمقراطية وتعددية. في خرائط المشرق العربي يلفت الانتباه أن أكثر المناطق العربية عرضة اليوم للتفتيت والتقسيم هي تلك المناطق التي سيطر فيها حزب البعث لعقود.. وهو الحزب العربي الوحدوي.. فإذا هي اليوم عرضة لأكبر عملية تقسيم وتفتيت لتجعل من أمثولة الأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة، هباء تذروه رياح الشعارات التي رحلت مذ كرست تلك الأحزاب سلطتها النافية والقامعة والمقامرة والمغامرة، وسطا عليها من ركب الحزب وهو يقرب العشيرة ويُمكِّن للطائفة ويسلم للدائرة الأضيق مفاتيح السلطة ومقومات التحكم بمستقبل عشرات الملايين من البشر في هذه المنطقة المنكوبة. توفي قبل أيام الدكتور فؤاد عجمي.. أحد المنظرين الكبار لمشروع الغزو الأمريكي للعراق. إسهاماته التنظيرية قدمت خدمة كبرى لليمين الأمريكي المتطرف لإنفاذ مشروع الغزو. وخُدع كثيرون من أن فرصة العراق ستكون أكبر بعد رحيل نظام صدام حسين، بنظام ديمقراطي دستوري تواقفي يمكن العراقيين من صناعة تجربة مختلفة بعد عهود الحصار والحروب والكوارث التي حلت بالعراق.. لم تكن الكارثة فقط بانهيار نظام صدام حسين كنتيجة للغزو الأمريكي.. كانت الكارثة الكبرى باستدعاء ساسة عراقيين ذوي نزعة طائفية لتمكينهم من العراق، وهدم الغازي الأمريكي - الجيش العربي العراقي- لبناء نظام بديل وهش كانت البدايات الأولى مؤشراً على مدى الإخفاق الذي ينتظره. لا يجب وضع حزب البعث في العراق في كفة واحدة مع بعث سورية.. فبعث العراق لم يكن طائفياً.. كان حزباً قومياً تشغل مراكزه الحساسة والكبرى فئات مختلفة متباينة الجذور والهويات المذهبية والعرقية.. إلا انها كانت مخلصة لفكرة الحزب.. حتى وإن اعتمد صدام على الدائرة العشائرية الضيقة لحماية النظام في السنوات الأخيرة من عمره.. إلا ان بعث سورية كان مؤامرة كبرى باسم البعث.. فمنذ عام 1963 وهناك توجه واضح لدفع ضباط الطائفة العلوية لاستلام الحكم باسم البعث، وإن لم تبرز تلك النزعة سوى مع انقلاب عام 1970 الذي جاء بحافظ الأسد على رأس الدولة والحزب. اليوم دولتا الحزبين تتعرضان لأكثر احتمالات التقسيم والتفتيت. ولن تكون العبرة في استلهام دروس متأخرة، ولكن في اكتشاف أبعاد وخطورة مشروع التقسيم على الأمة العربية برمتها، وعلى مستقبل بقية دولها التي لازالت قادرة على حماية حدودها وكياناتها. عراق ما بعد اجتياحات الثوار من العشائر وتنظيم "داعش" يختلف عما قبلها، وسورية تكاد تواجه ذات المصير.. وليس من المتوقع لدى كثير من المحللين أن تكون استعادة تلك المناطق لصالح نظام المالكي سهلة أو ممكنة.. والإدارة الأمريكية تدرك تلك الصعوبات. وليس بعيداً عن الصحة ما تشير إليه صحيفة النيويورك تايمز من أن جيش المالكي يحتاج لمعجزة ليهزم الثوار، فنصفه هارب والباقي معنوياته بالحضيض ومنهارة وقيادته فاسدة. الدور الإيراني الذي اشتغل على استراتيجية السيطرة والتمكين في المنطقة خلال الأعوام الماضية تحت أكاذيب المقاومة والممانعة، تأتي نتائجه - كما تظهر اليوم - انقساماً مجتمعياً كبيراً. رفض العرب السنة الخضوع لهذه السياسة الطائفية سواء في العراق أو سورية، وبروز التنظيمات المتطرفة التي صارت تجد حاضنة شعبية في مناطق العرب السنة.. ولن يكون من السهل استعادة دول وكيانات قطرية أدماها الصراع ودمر مقومات تعايشها، وأنهك القتل والظلم كل أمل باستعادة كيان الدولة. كما بدت الأمور أكثر وضوحاً من ذي قبل.. فالدور الإيراني الخطير والمزدوج أحال الصراع من صراع حقوق إلى صراع طوائف.. ورمى بكل أدبيات ومقومات ستة عقود من التعايش إلى مهب الريح. ولا غرابة والوضع هكذا أن يذهب بعض الباحثين والمحليين، إلى أن السياسة الإيرانية وضعت شعوب المنطقة أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الرضوخ للهيمنة الإيرانية المطلقة، أو التقسيم الذي لا يمكن أن يفضي إلا إلى العيش في "منظومة انتداب" إقليمية جديدة. فإسرائيل عينها اليوم على كردستان، ويبدو أن التعاون بينهما أكبر وأعمق. أما تركيا فعينها على الكيان السني أو الدولة السنية، كما لا تخفي إيران رعاية ودعم امتداداتها الطائفية لدولة شيعية في وسط وجنوب العراق كما في الساحل السوري وصولاً إلى بيروت..