إذاً.. أجمع مفسرو نصوص السنة على منع عقوبة المسلم بسبب عدم صلاته في المسجد أو مع الجماعة.. ومع هذا فإننا نرى أولئك الذين يدعون أنهم من أهل الحسبة.. يتوعدون بالويلات أهل المتاجر إذا ما ونوْا عن قفل محلاتهم.. منها تهديدهم بقفلها لأيام وتغريمهم، بل ذهب بعضهم سرفاً في العقاب، إذ لم يزعهم الضمير عن توقيفهم أو كتابة محاضر ضدّهم.. الخ، أضف إلى ما سلف بأن القاضي عياض قال: هذا الحديث ما حل من أي حجة لأنه همّ ولم يفعل.. وزاد النووي: لو كان فرض عليهم لما تركهم.. وقال ابن رفيق: هذا حديث ضعيف لأنه عليه السلام لا يهم إلا بما يجوز له فعله لو فعله.. ونزع بعض المفسرين أيضاً إلى القول بأن المراد من هذا الحديث هو التهديد لقوم تركوا الصلاة رأساً لا مجرد الجماعة، وأنه ورد للحث على مخالفة أهل النفاق لا لخصوص ترك الجماعة، والبعض منهم نزع إلى القول بأنه ورد في حق المنافقين.. فليس التهديد بترك الجماعة خاص به.. ومن ثم لا يتم كدليل لاختصاصه بهذا.. وقد أكد ابن حجر ورود هذا الحديث في المنافقين لقوله:(ليس صلاة أثقل على المنافقين من العشاء والفجر)، كما أن الروايات تهاترت حول الصلاة التي عناها حديث التهديد.. هل هي صلاة العشاء أم الفجر أو العشاء والفجر، وقوله (لو يعلم أحدهم) فهذا النعت لاحق بالمنافقين.. بل جنح نفر آخر من مفسري الحديث إلى القول بأن ما ادعاه بعضهم إلى أن الإلزام بصلاة الجماعة إنما كان في أول الإسلام.. لأجل سد باب التخلف عن الصلاة على المنافقين.. ثم نُسخ.. بالأحاديث التي ذكرناها والتي تقول بتفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفرد. - والواقع أن التعيين هذا.. ورد في حديث أبي هريرة وابن مكتوم وابن مسعود، أما حديث أبي هريرة فهو يومي إلى أنها صلاة العشاء كقوله في حديث آخر:(يشهد العشاء) وفي رواية مسلم (يعنى العشاء) وعينّها السرَّاج في رواية له من هذا الوجه العشاء.. حيث قال في صدر الحديث (أَخّر العشاء ليلة فوجد الناس قليلاً فغضب ).. أما حديث ابن مكتوم فهو موافق لأبي هريرة، وأما حديث أبي مسعود فقد أخرجه مسلم وفيه الجزم بالجمعة. - وقد قال ابن دقيق العبد(من يتمسك بالظاهر لا يتقيد بالمعنى وهو أن الحديث ورد في صلاة معينة فيدل على وجوب الجماعة فيها دون غيرها.. لأن غير العشاء والفجر فيه مظنة العمل والتكسب وغيره) (أنظر: فتح الباري لابن حجر ج 2 ص 159).. ولا مرية أن هذا القول يظاهر ما ذكرناه وهو أن لا نص في القرآن والسنة ولا عرف ولا عادة بلزوم صلاة الجماعة في كل الصلوات، وعلى أن تكون في المسجد، ولم تذكر شيئاً عن لزوم قفل الأسواق، لأن دلالته تؤكد أن الصلوات الأخرى لا إلزام فيها بحضور الجماعة ففي أوقاتها ينشغل الناس للعمل والكسب، وهذا يظافرنا أيضاً ما انتحينا إليه في أنه لا معنى لقفل الأسواق وقت الصلاة، فالمصلحة تحتم على السعوديين عدم قفل الأسواق وتحريم العمل عليهم أربع مرات تباعاً في اليوم. - ومهما يكن من أمر، فإنه حتى ولو ذهبنا إلى وجوب أو ندب حضور صلاة الجماعة في جميع الفروض، فإن الحضور هذا ليس شرطاً لصحة الصلاة، كما أنه ليس بلازم إطلاقاً قفل الأسواق وإيقاف سير الحياة، فمن يريد الصلاة جماعة يستطيع أن يصلي في السوق أو في محل تجاري إذا كان يعمل فيه أكثر من واحد، فقد قال موسى ابن إسماعيل، قال حدثنا عبدالواحد قال حدثنا الأعمش، قال سمعت أبا صالح يقول إن أبي هريرة روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم (صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاة في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين درجة) (انظر: فتح الباري ج 2 ص 162) وما يستنبط من النص هو أن دلالته تشير بأن لا لزام بإقفال الأسواق عند وقت الصلاة، بل على العكس يستبين منه إجازة الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام صلاة المرء في السوق، (وقد ورد في باب الصلاة في مسجد السوق في فتح الباري لابن حجر ج2 - ص704 - عن أبو معاوية عن الأعمش عن أبي هريرة قول الرسول عليه السلام) (صلاة الجميع تزيد على صلاته في بيته وصلاته في السوق خمساً وعشرين درجة.. إلخ)، وقد فُسِّر هذا الحديث بأن:(المراد بالمساجد مواضع اتباع الصلاة لا الأبنية الموضوعة لذلك، وقد ظهر من حديث أبي هريرة أن الصلاة في السوق مشروعة، وإذا جازت الصلاة فيه فرادي كان أولى أن يتخذ في مسجد للجماعة) (انظر: فتح الباري - ج2 - ص704)، ويُستظهر كذلك من كل هذا جواز ترك المحلات مفتوحة ولا مدعاة لوقوف دواليب الحياة ومصالح العباد أربع مرات في اليوم إبان أداء الصلاة في المساجد.. نضيف إلى هنا بأن هناك من حاجّ بما ورد في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود، عن عمرو بن أم مكتوم قال: قلت يا رسول الله، أنا ضرير شاسع الدار، ولي قائد لا يلازمني، فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي قال: تسمع النداء ؟ قال نعم قال: ما أجد لك رخصة. - ومن لاذ بظاهر هذا الحديث يرى أن الضرير ملزم بحضور الصلوات الخمس في المساجد، ويأثم لتركها، وأن حضور الجماعة واجب على الأعيان، إلا أن هذا الحديث يجبه ما ورد في الأثر عن رسول الله عليه السلام.. فقد روى عن اسماعيل قال حدثني مالك عن ابن شهاب عن محمود ابن الربيع الأنصاري (أن عُتبان ابن مالك كان يؤم قومه وهو أعمى وأنه قال لرسول الله، يا رسول الله أنا رجل ضرير البصر، فأصلي يا رسول الله في بيتي بمكان أتخذه مصلى، فجاءه رسول الله فقال: أين تحب أن أصلي.. فأشار إلى مكان في البيت.. فصلى رسول الله) هذا الحديث يدل على جواز الصلاة في البيت، كما أن القاعدة الفقهية تقول إن المشقة جالبة للتيسير، باعتبار أن درء الحرج أصل مقطوع به في الشريعة ومقصد من مقاصدها.. ولهذا جنح الإمام الشاطبي في موافقاته إلى القول: إذا كان العمى ليس بعذر، فلا عذر إذاً، وعدم جواز إعذار رجل ضرير شاسع الدار يضارُ بالهوام التي قد تعترض طريقه رغم طلبه الرخصة، يتزاور ولا مرية، مع قوله تعالى (ليس على الأعمى حرج)، وقوله جل شأنه« وما جعل عليكم في الدين من حرج»، وما ورد في محكم كتابه « ويريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر» ولا ذريعة للاعتراض على هذا بالقول إن نص هذه الآيات ورد في مناسبات خاصة، فرفعُ الحرج عن الأعمى جاء في الجهاد، وإن كان قد جاء في المطاعم في سورة النور إلا أنه في سورة الفتح جاء رفع الحرج بعبارة العموم، والعبرة هنا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهذا ما أجمع عليه الأصوليون( أنظر: كشف الأسرار للبزدوي - ج1 - ص291، وأصول السرخسي - ج1 - ص132، ومسلم الثبوت - ج1 - ص200، وأصول الفقه للزحيلي - ج1 - ص248/249، وكذلك خالد الغنامي – المرجع السابق ص237/238 وما بعدها - المرجع السابق).. فصاحب هذا المرجع الأخير رد بتفصيل على كل المعترضين على قوله صلاة الرجل في بيته، وقد كانت ردوده لاجمة.. ولذا فإني اتخذته مرجعاً لي في بحثي هذا.