إن إقفال المحلات وإجبار الناس على الصلاة جماعة في المسجد هو أمر غير جائز شرعاً لأنه من قبيل الإكراه كما ذكرنا.. ناهيك بأن الفقهاء لم يشترطوا لصحة الصلاة أن تقام مع جماعة أو أن تكون في مسجد،( كما سنرى في آتي السطور).. كما أنه لا يجوز اتخاذ الصلاة في المسجد تَعِلَّةً لإقفال المحلات وإيقاف النشاط الإداري للدولة والنشاط التجاري للتجار في السوق والصناعي في المصانع، وإهدار آلاف الملايين من ساعات العمل، طالما أن الصلاة ستؤدى من قبل العاملين جماعة أو فرادى وعلى وجه لا يتزاور عن نصوص القرآن والسنة.. هذا إذا عرفنا بأنه لم يأت - كما ذكرنا - نص في القرآن (إذا استثنينا صلاة الجمعة) أو حتى في نصوص السنة وأحكام المذاهب في الشريعة ما يقول بلزوم إقفال المحلات أو إلزام الناس بالتوقف عن العمل لمدة تضاهي ساعة كاملة عند كل فرض، ولا مرية أن غيبة نص كهذا هو أمر لا شك له سبائبه أولها: سماحة الإسلام ورفقه بالمؤمنين إذ لا يسعى ديننا الحنيف إلى تعطيل الناس عن العمل.. وثانيها: أن الصلاة بالإمكان أن تؤدي خلال دقيقتين أو ثلاث أو أربع وليس أكثر، فأي شخص يعمل يستطيع أداءها في محله أو مكان عمله بعد سماعهِ الآذان.. ولا حاجة إلى التكرار بأن الإقفال لساعات طوال اليوم، - إذا أخذنا بالتطورات الاقتصادية والاجتماعية- سيحرم الناس من العمل والإنتاج وما يبتغونه من ضرورات تلزم بها ظروفهم وأحوالهم في هذه الحياة.. لأنه سيحرم الذاهبين إلى الأسواق وأهل الحاجات والمرضى والمسافرين من قضاء حوائجهم وشراء لوازمهم، وفي هذا لا شك عنت وحرج جد كبير، فضنك الازدحام في المرور بسبب كثرة السيارات، ووعثاء الطريق وطول المسافات في مدن تراحبت أرجاؤها ودنيا ضاقت أوقاتها وتشعبت وتعقدت ظروف المعيشة فيها، كل هذا يضحى معه كل إجراء يزيد من التأخير ويطيل الوقت مفضياً لضيق وإكراه وعنت، ولا يتمارى اثنان في أن إجراء كهذا يهدر أحكام الشريعة وروحها وسماحتها، لأنها تظهر الإسلام وكأنه دين القسر والإكراه غير آبه بأحوال الناس وما هم فيه من أوضاع قد يتعاسرون معها أداء الصلاة في المسجد، وهذا ولا جدل يهب كل عدو لهذا الدين، فيه غل على هذه الديار وأهلها حجة ماضية للتهكم علينا والهجوم على دولتنا أعزها الله في وسائل الإعلام، لأنهم يعتلثون بالإقفال كذريعة لتحقيق أربهم وهو تشويه صورة الإسلام وكأنه دين التعطيل عن العمل.. بل ودين الإجبار والإكراه.. وحتى إذا رحنا نفاخر بسماحة ديننا وقلنا إن الآيات الكثار السالف ذكرها تقطع بأن لا إكراه في دين الإسلام.. فإنهم سيجيبون ساخرين.. لماذا إذاً تخالفون شرائعكم وتجبرون الناس على فعل أمر لم يلزم به الإسلام؟، وما وشيجة أداء الصلاة في المسجد أو غيره، الذي لا يستغرق أداؤها ثلاث دقائق أو أربع، مع إيقاف الحركة الاقتصادية لساعات كل يوم.. وتعطيل مصالح الناس. أين سماحة الإسلام التي تشهرونها ليل نهار، وأين لينه ورحابته التي تتباهون بها ؟ هذا إذا عرفنا أن من يقول بعدم لزوم الإقفال وأنه يهدر جهاراً نصوص القرآن.. يجد ما يظاهره أيضاً في نصوص السنة التي ينتضيها أولئك الذين يقولون بوجوب إيقاف العمل ومنع أي نشاط أي كان في أوقات الصلاة.. فهذا ما سنراه في آتي السطور. - ومن يمم وجهه شطر السنة المحمدية قد خوت من أي نص يلزم بإقفال المحلات وإجبار الناس على ذلك أوقات الصلاة أي قبل الآذان بثلث ساعة، وأثناءها، وبعد انتهائها بثلث ساعة، صحيح أن الأحاديث كلها ذهبت إلى تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفرد.. إلا أنها لم تلزم بإقفال الحوانيت ومنع الناس عن العمل وتحريم الكسب والارتزاق عليهم، كما أنها لم تقل أنها (أي صلاة الجماعة) شرط صحة للصلاة.. يعاضدني في قولي هذا نصوص السنة التي ستأتيكم دراكاً على الوجه الذي يلي: إن من يؤوب إلى ما ورد في مسند الامام ابن حنبل هامش رقم (3) ص 235/236، يجده قد أورد أحاديث عديدة حول هذا الأمر، فعن أبي عمر قول الرسول عليه السلام:(صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد ب (27) درجة وقيل (25) درجة)، وعن أبي سعيد قوله عليه السلام:(صلاة الجماعة تزيد على صلاته في بيته وفي سوقه ب (25) درجة) فهذا النص قال صراحة بجواز الصلاة في السوق وفي المحل التجاري، فلماذا نخالفه بتحريم الصلاة فيه وإلزام الناس بالإقفال.. هذا إذا عرفنا أن السنة هي المصدر الثاني لشريعة الإسلام، وعن أبى هريرة (صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته وحده ب أربعة وعشرين أو(25) درجة).. وعن معاذ(الصلاة في جماعة تعدل خمسة وعشرين صلاة) وعن أبى سعيد فضل صلاة الجماعة على صلاة الرجل وحده (25) درجة، وفضل صلاة التطوع في البيت على فعلها في المسجد كفضل صلاة المسجد على المنفرد) وعن قثامة بن عبدالله بن أنس عن جده (صلاة الرجل في الجماعة تزيد على صلاة الرجل وحده (29) صلاة). - فمن يروز نصوص الأحاديث هذه يلفيها تقول بتفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفرد، وأن أي أمرئ يبتغي ثواباً من الله أكثر وأكبر فعليه الصلاة في الجماعة.. لكن ما يستطاع سبره من هذه النصوص أيضاً أنها لم تقل بإلزام أي امرئ على الصلاة مع الجماعة، ولم تقل أن الصلاة مع الجماعة لا تكون إلا في المسجد، ولم تقل بإقفال الأسواق ومنع الناس من العمل والتكسب والتسوق لقضاء حوائجهم ومنع المراجع في الدوائر الحكومية من إنهاء أعماله، والحؤول دون المسافر وسفره والمريض عن شراء دوائه والطبيب عن معالجة مريضة.. الخ، فصلاة الجماعة يمكن أن تؤدي في غير المسجد.. كأن يكون ذلك في مكان عمل المرء أو في متجره أو في مصنعه أو في مكتبه.. يقول النبي عليه أفضل الصلاة والسلام:( أوتيت مالم يؤت الرسل جعلت لي الأرض مسجداً طهوراً فأي رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصَلّ)أخرجه البخاري، وهذا يعني أن كل موضع طاهر هو مسجد وليس بالضرورة أن يكون بناء، كما أن الرسول عليه السلام لم يقل بضرورة توقف مناحي الحياة ساعات من النهار.. أي ساعة عند كل فرض، ولم يقل أيضاً إن الصلاة مع الجماعة شرط من شروط صحة الصلاة فيبيح للمسلمين وأعضاء الهيئة أن يسوقوا الناس عنوة إلى المسجد وكأن لا صلاة صحيحة إلا فيه، فهذا ما انتحى إليه الإمام أحمد. أما ظاهر نص الشافعي فصلاة الجماعة هي فرض كفاية وإلى هذا هفا جمهور المتقدمين(أنظر.. فتح الباري في شرح صحيح البخاري لابن حجر ج (2) ص 156 ). - صحيح أن هناك أحاديث نسبت للرسول عليه السلام، وحاجّ بها نفر من المحتسبين جاعلين منها دريئة لجدلهم في القول بلزوم إقفال المحلات وحرمان الناس من العمل ساعة من الزمان عند كل فرض، وإلزام الناس بالصلاة في المسجد كالحديث الذي يقول(لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد – رواه أبو هريرة)، والحديث الآخر الذي يقول:(من سمع النداء صحيحاً فلم يجب فلا صلاة له).. فهذا ما رواه أبو زرارة.. إلا أن هذا الضرب من الأحاديث هي أحاديث مرسلة واهية السند، نَبَذها الفقهاء بإجماعهم. كما أن هناك أحاديث أخرى رواها أبو هريرة نفسه نصت على تفضيل صلاة الجماعة فقط على صلاة الفرد. أما عن النداء فربما كان ذلك في عهد لم تكن فيه الآلات الحديثة التي تجعل الصوت يسمع من بُعْد أكيال من المسافات، إذ لو أخذنا بهذا الحديث على ظاهره لكان في ذلك عنت للناس جد كبير، لأن الأخذ به يجبر كل من يسمع النداء على الإتيان إلى المسجد، حتى ولو كان على بعد ثلاثة أو أربعة أكيال. بل أضيف القول بأن هذين الحديثين الضعيفين أو الحديث الضعيف(فالنص تقريباً واحد)لم يقولا بوجوب قفل الأسواق ولم يقولا بإكراه الفرد على المكوث ساعة دون عمل حين أداء كل فرض.. كما أن الحديث هذا، أي لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد أو من سمع النداء.. إلخ وإن حَثَّا على الصلاة في المسجد، إلا أنهما لم يقولا بإكراه الناس على الصلاة في المسجد والإجراء بالإلزام في هذه الحال يعد ثلماً لهذا النص، لأن الصلاة في المسجد هي من الأمور التي يراها ويقررها الفرد نفسه.. وطبقاً للإيمان الراسخ في وجدانه وعلاقته مع خالقه، وكذلك ما تقضي به ضروراته في الحياة.. أما إذا كان هذا يفسر بأنه يجعل هناك ضرورة لإكراه الناس على ترك سبل عيشهم بالتوقف عن العمل وحرمان ذوي الحاجات من قضاء حوائجهم في الأسواق، ومنع المريض من شراء دوائه، والحؤول دون المسافر وسفره، رغم أن من حقه الجمع والقصر ولا إلزام عليه بحضور صلاة الجماعة طوال الوقت الذي يبدأ قبل الأذان بثلث ساعة وبعد نهاية الصلاة بثلث ساعة.. ناهيك بإكراههم على الصلاة فيه.. هذا كله جَابِه لقواعد الشريعة الإسلامية التي أتى بها الكتاب والسنة.. فهي لا تكره الناس على الدين.. كما أن إكراه امرئ على أن يصلي في المسجد لن يُقْبَل من الباري جلّ وعلى، ولن ينال الثواب الذي يرتجيه من هذا الفعل – كما ذكرنا من قبل – لأنه لم يقدم على ذلك إلا لخوف أو رياء أو مصانعة، وما يظافر قولي في هذا الأمر هو ما نزع إليه مفسرو الحديث في تفسيرهم الحديث الذى ذكره صاحب فتح الباري ج (2) ص (460)، والقائل: حدثنا عبدالله بن يوسف قال أخبر مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن الرسول قال(والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة يؤذن لها ثم آمر رجلاً فيؤم الناس.. ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم... الخ )، وقد أجمع الفقهاء والمفسرون على أن هذا الحديث مرسل هاوي السند، بل هو نابذ لسماحة دين الإسلام والشريعة التي لا تكره الناس أبداً (انظر: فتح الباري ج2 - ص 156 وما بعدها) ولهذا نزا أبو بزيره إلى القول بأنه يستنبط من نفس هذا الحديث عدم الوجوب لكونه همَّ بالتوجيه إلى المتخلفين،(فلو كانت الجماعة فرض عين ما هم بتركها إذا توجه)، وقد فها إلى ذلك أيضاً ابن بطال.. إذ قال(لو كانت فرض لقال حين توعد بالإحراق لمن تخلف عن الجماعة لم تجزئه صلاته)، وظافرهم في ذلك (الباجي).. حين قال إن الخبر ورد مورد الزجر وحقيقته غير مبتغاه، وهذا ما ذهب إليه أيضاً الإمام الشافعي حيث قال إن التهديد هذا ورد في المنافقين وشايعه في هذا فقهاء كُثُرْ، كما أن شراح الحديث قالوا بصحة هذا التأويل.. خاصة وأنه وصف يليق بالمنافقين وليس بالمؤمنين (انظر : ابن حجر - المرجع السابق - ص156).. فقد كان المنافقون يتضاجعون عن حضور صلاة الفجر والعشاء بسبب عدم وجود الإضاءة، فهي فضَّاحة لمن غاب، ويدل على هذا أكثر ما رواه الإمام أحمد بن حنبل عن محمد بن جعفر قال: حدثنا عن أبي بشر عن أبي عير بن أنس عن عمومة له من أصحاب الرسول عليه السلام أنه قال: لا يشهدها منافق يعني الصبح والعشاء (أنظر: خالد الغنامي: جواز صلاة الرجل في بيته – ص 213/214 ط 2007).