سعادة الأستاذ خالد المالك رئيس تحرير الجزيرة حفظه الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: اطلعتُ على مقالٍ نُشِرَ في جريدةِ الجزيرةِ في عددها الصادر يوم السبت 27 صفر 1433 لأخينا الدكتور أحمد بن قاسم الغامدي، يتعلَّقُ بحكمٍ شرعيٍّ، ألا وهو «صلاةُ الجماعةِ»، وأمورٍ أخرى، فرأيتُ أنْ أبيِّنَ وجهَ الحقِ في هذه المسألةِ - خصوصًا - وذلك على ضوءِ نصوصِ الكتابِ والسُّنةِ، وما قاله أئمةُ الأمةِ. وأقول: إنَّ صلاةَ الجماعة في المساجدِ مِن أوكدِ العباداتِ، وأجلِّ الطاعاتِ، وأظهرِ شعائرِ الإسلامِ.. قال الإمامُ أبو البركات عبدُ السَّلامِ بنُ تيمية - رحمه الله -: «الصلاةُ في المساجدِ مِن أكبرِ شعائرِ الدِّين وأعلامِه، وفي ترْكِها بالكليةِ أوْفى المفاسدِ، ومحوُ آثارِ الصلاةِ، بحيث تُفضِي إلى فتورِ هِممِ أكثرِ الخَلْقِ عن أصلِ فِعلِها»، [كتاب الصلاة، ص 266]. وقال الإمامُ ابنُ القيم - رحمه الله -: «ومَنْ تأمَّلَ السُّنةَ حقَّ التأملِ تبيَّن له أنَّ فِعلَها في المساجدِ فرضٌ على الأعيانِ، إلا لعارضٍ يجوزُ معه تركُ الجمعةِ والجماعةِ. فتركُ حضورِ المسجد لغيرِ عذرٍ كتركِ فِعلِ الجماعةِ لغيرِ عذرٍ»، [المصدر السابق، ص 268]. وقد فهِمَ الصحابةُ الكرامُ مِن نبيِّهم - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - أنَّ الصلاةَ في المساجد جماعةً فرضُ عينٍ، قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية - رحمه الله -: «إذ لو كانت عندهم مستحبةً كقيامِ الليلِ وصلاةِ الضُّحى، كان فيهم مَن يفعلُها، ومنهم مَن لا يفعلُها مع إيمانه» [المصدر السابق 23 -230]، قال عبدُ الله بنُ مسعودٍ رضي الله عنه: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللهَ غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلاَءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ، فَإِنَّ اللهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم سُنَنَ الْهُدَى، وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى، وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّى هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِى بَيْتِهِ، لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ، ثُمَّ يَعْمِدُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ، إِلاَّ كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً، وَيَرْفَعُهُ بِهَا دَرَجَةً، وَيَحُطُّ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلاَّ مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ»،[رواه مسلم في كتاب المساجد، باب صلاة الجماعة من سنن الهدى، رقم (654)]. قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية - رحمه الله -: «ومعلومٌ أنَّ كلَّ أمرٍ لا يتخلَّفُ عنه إلا منافقٌ كان واجبًا على الأعيانِ، وعلاماتُ النفاقِ لا تكونُ بتركِ مُستحبٍ ولا بفعلِ مكروهٍ» أ.ه، [مجموع الفتاوى 23 -230]. قال الإمامُ ابنُ القيم - رحمه الله -: «ومَن استقرَأ علاماتِ النِّفاقِ في السُّنة وجدَها إما تَركُ فريضةٍ أو فعلُ محرَّمٍ، وقد سمَّى تاركَها المصلي في بيتِه متخلفًا تاركًا للسُّنةِ التي هي طريقةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم التي كان عليها، وليسَ المرادُ بها السُّنةُ التي مَن شاءَ فعلَها، ومَن شاءَ تركَها، فإنَّ ترْكَها لا يكون ضلالاً، ولا مِن علاماتِ النفاقِ، كترْكِ الضحى، وقيامِ الليل، وصومِ الاثنين والخميس»، [كتاب الصلاة، ص 230]. ومما يدل على وجوبِ الصلاةِ جماعةً في المساجدِ ما رواه الإمامُ أحمد - في مسنده - أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يُصلِّي فردًا خلفَ الصَّفِ، فوقفَ نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم حتى انصرفَ الرَّجلُ مِن صلاتِه، فقال له: «اسْتَقْبَلْ صَلاَتَكَ، فَلاَ صَلاَةَ لِفَرْدٍ خَلْفَ الصَّفِّ»، [رواه أحمد: (24009) - وابن ماجه: (1003) - وصحَّحه الألباني]، ووجه الدلالة: أنه صلى الله عليه وسلم أبطلَ صلاةَ المنفردِ خلفَ الصفِ، وهو في جماعةٍ، وأمرَه بالإعادةِ مع أنه لم ينفردْ إلا في المكانِ، فصلاةُ المنفردِ عنِ الجماعةِ والمكانِ أوْلى بالبطلانِ. ومما يدل على وجوب صلاةِ الجماعة أنَّ اللهَ تعالى أمَرَ بها في حالِ شدةِ الخوفِ، ففي حالِ الأمنِ أوْلى، {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ} (102) سورة النساء، قال الحافظُ ابنُ كثيرٍ - رحمه الله -: «وما أحسنَ ما استدل به مَن ذهبَ إلى وجوبِ الجماعةِ مِن هذه الآيةِ الكريمةِ، حيث اغتُفِرت أفعالٌ كثيرةٌ لأجلِ الجماعةِ، فلولا أنها واجبةٌ لما ساغَ ذلك»، [تفسير ابن كثير 2 -400]. وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -: «فإنَّ الجماعةَ يُتركُ لها أكثرُ واجباتِ الصلاةِ في صلاةِ الخوف وغيرها؛ فلولا وجوبُها لم يُؤمر بتركِ بعضِ الواجباتِ لها؛ لأنه لا يؤمر بترك الواجبات لما ليس بواجب»، [مجموع الفتاوى 23-240]. وفي الدُّرر السَّنية مِن إجابات الشيخِ عبدِ الله أبابطين - رحمه الله -: «وأما مَن يُداوِمُ على التَّكاسلِ عن الصلاةِ، بحيث لا يُدرِكُ في الغَالب إلا التشهدَ أو ركعةً، فهذا يُخاف على فاعلِه مِن النِّفاقِ; ويسقطُ مِن مرتبتِه، وينبغي نصيحتُه، واعتزالُه حتى يرتدِعَ» [الدرر السنية 5-433]، والله المستعان. وقال شيخُ الإسلام - رحمه الله -: «والمُصرُّ على تَرْكِ الصلاةِ في الجماعةِ رجلُ سُوءٍ يُنكَرُ عليه، ويُزجَرُ على ذلك، بل يُعاقبُ عليه، وتُردُّ شهادتُه»، [مجموع الفتاوى 23-252]. وأَعلمُ الأمةِ وأفقهُها وأجلُّها صحابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما فهموا مِن قولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلام للأعمى: «هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلاَةِ؟»، فقال: نَعَمْ، قال: «فَأَجِبْ» [رواه مسلم في المساجد، رقم (653)]، إنما فهِمُوا إتيانَ المسجدِ للجماعةِ، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ أَعْمَى، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إِلَى الْمَسْجِدِ. فَسَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فَيُصَلّيَ فِي بَيْتِهِ فَرَخَّصَ لَهُ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ، فَقَالَ: «هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلاَةِ؟». فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَأَجِبْ»، [رواه مسلم في المساجد، رقم (653)]. فلم يجعله صلى الله عليه وسلم معذورًا بصلاته في بيته إذا سمِع النداء، فدلَّ هذا على أن الإجابةَ المأمورَ بها هي إتيانُه المسجدَ للجماعةِ، ويدل عليه حديثُ ابن أمِّ مكتوم رضي الله عنه قال: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ الْمَدِينَةَ كَثِيرَةُ الْهَوَامِّ وَالسِّبَاعِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : «أَتَسْمَعُ حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلاَحِ؟ فَحَيَّ هَلاَ»، [رواه أبو داود في الصلاة، رقم (553) - والنسائي في كتاب الإمامة، رقم (851)، وصحَّحه الألباني]، فأوْجبَ شهودَ الجماعةِ على العُميانِ، وإنْ بعدُت منازلُهم عن المسجدِ، وليس لأحدِهم قائدٌ يقودُه إلى المسجدِ. فإجابةُ الدَّاعي هي إتيانُ المسجدِ لحضور الجماعة، لا صلاتُه في بيتِه. وفي السُّنن: «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَأْتِهِ، فَلاَ صَلاَةَ لَهُ، إِلاَّ مِنْ عُذْرٍ» [رواه ابن ماجه، رقم (793) - وصحَّحه الألباني]، وفي اهتمامه صلى الله عليه وسلم بأنْ يُحرِّقَ على قومٍ، تخلَّفوا عن الصلاة، بيوتهم أبينُ البيان على وجوبِ صلاةِ الجماعة في بيوتِ الله؛ إذ غيرُ جائز أن يتهددَ رسولُ اللهِ عن مندوبٍ أو مُستحبٍ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ أَثْقَلَ صَلاَةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلاَةُ الْعِشَاءِ وَصَلاَةُ الْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاَةِ فَتُقَامَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ، إِلَى قَوْمٍ لاَ يَشْهَدُونَ الصَّلاَةَ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ»، متفق عليه. وفي المسند [رقم: (8796)]، وغيره: «لَوْلاَ مَا فِي الْبُيُوتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ، لأَقَمْتُ الصَّلاَةَ...» الحديثَ، قال شيخُ الإسلام - رحمه الله -: «فبيَّن صلى الله عليه وسلم أنه همّ بتحريق البيوت على من لم يشهد الصلاة، وبيّن أنه إنما منعه من ذلك من فيها من النساء والذرية؛ فإنهم لا يجب عليهم شهود الصلاة، وفي تحريق البيوت قتل من لا يجوز قتله، وكان ذلك بمنزلة إقامة الحد على الحبلى» ا.ه [مجموع الفتاوى 23-228]. قال الحافظُ ابن حجر - رحمه الله - [في فتح الباري 2-126]: «هذا الحديثُ ظاهرٌ في كونِها فرضَ عينٍ؛ لأنَّها لو كانت سُنةً لم يُهددْ تاركَها بالتَّحرِيقِ، ولو كانت فرضَ كفايةٍ لكانت قائمةً بالرسولِ ومَن معه» أ. ه. ولو كان الواجبُ مجردَ فعلِ الجماعةِ لما جازَ الجمعُ للمطرِ ونحوه، وتُرِكَ الشرطُ وهو الوقتُ؛ لأجلِ السُّنة. وقد ترجمَ الإمامُ البخاري - رحمه الله - على هذا المعني في صحيحه - [في أول كتاب الأذان] - بقوله: بابُ وجوبِ صلاةِ الجماعةِ، وقال الحسنُ: «إنْ منعته أمُّه عن العشاءِ في جماعةٍ شفقةً لم يُطعْها»، وكان الأسودُ بن يزيد إذا فاتته الجماعةُ ذهب إلى مسجدٍ آخر، وكان ليثُ بنُ سليمٍ إذا فاتته الصلاةُ في مسجدِ حيِّه اكترى حمارًا فطافَ عليه المساجدَ حتى يُدرِك الجماعةَ، [رواه ابن أبي الجعد في مسنده، برقم (636) - وذكره الحافظ ابن رجب في (فتح الباري4-17)]. ويُخطئ مَن لا يعرفُ مصطلحَ الأئمةِ الفقهاءِ، فينسِبُ إليهم أنَّ صلاةَ الجماعةِ ليست بواجبةٍ، وإنما هي «سنةٌ مؤكدةٌ»، كما هو المشهور عن الحنفيةِ والمالكيةِ - [ينظر: الموسوعة الفقهية 25-265]، وحقيقةُ الأمر أنَّهم يؤثِّمونَ تاركَ السننِ المؤكدةِ، والخلافُ بينهم وبينَ مَن قال «واجبة» خلافٌ لفظيٌ فقط، فمَن قال مِن الأئمةِ إنَّ صلاةَ الجماعة «سنةٌ مؤكدةٌ» فإنما أرادوا بالتأكيدِ الوجوبَ، لتصريِحهم بتأثيم تاركِها وسقوطِ عدالته وتعزيرِه، قال الإمامُ الشافعي - رحمه الله -: «لا أُرخِّصُ لِمَن قدِرَ على صلاةِ الجماعةِ في تَرْكِ إتيانِها إلا مِن عُذرٍ»، (الأم 1 -180 ). والقولُ بوجوبِ صلاةِ الجماعةِ هو اختيارُ الشيخين (ابن باز، وابنِ عثيمين)، وغيرهما مِن أئمةِ التحقيق والهدى والدِّين [ينظر: مجموع فتاوى الشيخ ابن باز 10-248]، و[فتاوى الشيخ ابن عثيمين 12-36]. قال الشيخُ ابنُ عثيمين - رحمه الله -: «وأما مَن لا يصلي مع الجماعةِ، ويُصلي في بيتِه فهو فاسق، وإذا أصرَّ على ذلك التحقَ بأهلِ الفسقِ، وانتفت عنه صفةُ العدالةِ». عبد الرحمن بن عبد العزيز الدهامي / إمام وخطيب جامع الزهراء القصيم - البكيرية