" لا ترمي زجاجة عطرٍ فارغ في سلة المهملات فإن فيها بقايا إنسان بروحهِ وذكرياته وأشيائه السرية!" في رواية العطر للكاتب الألماني الشهير "باتريك زوسكيند" حاول البطل "جان باتيست غرونوي" أن يجد الرائحة المثلى على أرضِ هذه الحياة ويضعها في زجاجة للآخرين كي يستشعرونها بأنوفهم مختلفة الأحجام، بل إن هاجس البطل لم يقف عند هذا الحد فإغراء الرائحة واقتحام عوالمها التي لم يكتشفها بعد صانعو العطور لأنهم يعانون من البلاهة -على حد تعبيره- جعلته يتجرد من مفهوم الشر والخير ويحاول جاهداً أن يصنع من أجساد النساء عطراً بعد قتلهن كي تستنشقه أنت وأنا ونحن ونصاب بدوار لذيذ ورعشة على الأطراف فلكل امرأة وكما يظن رائحة خاصة ولا يمكن إيجاد مثيلها على سطح هذا الوجود ولا حتى في خارج أسواره الواسعة، حاول البطل أن يصل لذلك المشتهى المقلق بالنسبة له دون الاعتماد على الزهور والورود والأشكال الطبيعية الأخرى، سواءً فشل في تحقيق ذلك أو نجح لا يهم ولسنا بصدد إطلاق الأحكام على أكثر الأشياء تعقيداً، ما يهم فعلاً أن شانيل هي المرأة التي وضعت رائحتها المتخيلة في زجاجة، هي المرأة التي كانت الأوفر حظاً من كل المحاولات الأخرى، إنها المرأة الأكثر حضوراً في تاريخ الأزياء والجمال وصناعة العطور، إنها المرأة التي أعادت للحلم إمكانية أن يصبح حقيقة في واقع مليء بالمعوقات الذوقية!. في عام 1909 كانت "غابرييل شانيل" تختبئ كالأطفال ذوي الخيال الواسع في الطابق الأرضي بفرنسا وتحديداً أكثر في بناية "لبالسان" بمدينة باريس، شانيل اختبأت هناك وهي طفلة بعمر لا يتجاوز العشر سنوات في تلك البناية التي تُعنى برعاية الأيتام، اختبأت هناك لتخيط القبعات وتصنع الفساتين المليئة بالزهور والفراشات لبنات جيلها، مرت الأيام، مرت الشهور، مرت السنوات لتقتحم مدارات الرائحة بوعي ودراية مُطلقةً بذلك عطرها الشهير"CHANEL" وراسمةً على زجاجته رقم خمسة والذي يحمل تاريخاً من اليتم فهذا الرقم هو الاسم الذي كانت تحمله في ملجأ الأيتام دون أن يعرفه أحد، إلا أنه في الفترات اللاحقة أصبح رقماً يرمز للحظ الجميل.. و ل أكبر الشركات في العالم أجمع، أصبح اسماً ورقماً حاضراً لكل مشترٍ في هذا العالم المترامي الأطراف، ولتدير عائلتها بعد أن ذهبت إلى الموت ما يتجاوز ال 400 محلاً حول العالم وفي أكثر الأماكن فخامة ونخبوية وهي التي في السابق كان مكانها الوحيد والمتاحة "الطابق الأرضي"!. كلما تذكرت سيرة "شانيل" حاولت شرح الرائحة ذهنياً لأصل لحالة من العجز الكامل والصداع اللذيذ الذي يحضك على المزيد من البحث إلا أنه ومن الصعب جداً القبض على إطار كامل لمفهوم الرائحة، إنها تماماً كالكتابة كالحب كالحياة كالموت تستوعبها عن وعي كامل لكنك عاجز عن الوصول إلى البنية الأساسية التي تتكون منها والتمازج المدهش الذي يحدث من خلالها ورغم صعوبة شرحها وتفسيرها إلا أنها تظل وعن سابق إصرار الأكثر وضوحاً في أذهاننا، جرب مثلاً أن تتذكر مكاناً، أن تتذكر شخصاً، أن تتذكر ثوباً قديماً كنتَ ترتديه، أن تتذكر أي شيء، ستقفز رائحته على ذاكرتك في أقل من الثانية، بل إنه من خلال الرائحة ستعرف التفاصيل الأخرى، ستعرف ماذا كان يرتدي إن كان شخصاً، ستعرف لون الديكور الخارجي إن كان مكاناً، وستعرف أيضاً أنها امرأة فاتنة لأنها كانت تضع على رقبتها القليل من عطر "CHANEL"!.