لاشك ان أخطر داء يُهدد الإنسانية منذ نشأتها وحتى وقتنا الراهن، هو ذلك المرض العضال الذي تُمثله الطائفية بمختلف أشكالها ومستوياتها. فالطائفية البغيضة، هي الخطر الداهم الذي يُراد من خلالها تفتيت وحدة وتماسك وانسجام المجتمعات العربية، وزرع الفتنة والبغضاء بين مكوناتها وشرائحها المختلفة التي تعايشت -أو هكذا يُفترض- كل تلك القرون بحب ووئام وتآلف. إن الطائفية الكريهة التي بدأت تتمظهر وبشكل مكثف وسريع في الكثير من تفاصيلنا الصغيرة والكبيرة، أشد خطراً من العديد من المظاهر المجتمعية السلبية الاخرى كالقبلية والمناطقية والفئوية والطبقية، لأنها- أي الطائفية- ظاهرة أممية وكونية، ولا يُمكن لأحد أو جهة الوقوف أمام تمددها وانتشارها، فهي لا تعترف بالحدود أو الجغرافيا، وتنتقل في كل الاتجاهات والمسافات، على عكس تلك المظاهر الاخرى-رغم خطورتها- التي غالباً ما تتمركز في بيئتها الحاضنة المحدودة. إن المسألة الطائفية الآن، هي العنوان الأبرز والأكبر والأخطر بين كل المواضيع والقضايا والمجالات الأخرى، السياسية والفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، بل إنها الظاهرة العابرة لكل الحدود والجغرافيا، فضلاً عن العقول والقلوب. ولكن، من أين جاءت كل هذه المظاهر الطائفية والعصبية؟، وكيف استطاعت أن تجد لها حاضنة تدعمها وتمولها وتروّج لها؟، ومن هو المستفيد من طغيان هذا التسونامي الطائفي المقيت الذي يكاد يُغرق العالم العربي من محيطه لخليجه في بحر من الاحتقان والتأزم والانقسام؟ الأسئلة كثيرة جداً ولا نهاية لها، ولكن الإجابات لم تخرج بعد من شرنقة التردد والخوف والصدمة. نحن بحاجة لتشخيص علمي وحقيقي وشفاف لهذا المرض العضال الذي ينخر في جسد الأمة العربية التي تعاني أصلاً من حزمة كبيرة من المشاكل والأزمات والتحديات. إن الاحتقان والتعبئة الطائفية، ما هي إلا تداعيات وانعكاسات وارتدادات لأزمات ثقافية وفكرية وأخلاقية واجتماعية وسياسية واقتصادية تعيشها مجتمعاتنا العربية، نمت وتضخمت عبر عقود طويلة من التظاهر الشكلي والانسجام القشري بين مختلف مكونات وفئات وأطياف أغلب المجتمعات العربية، وبمجرد أن برزت على السطح بعض الاحداث والمواقف والقضايا التي أفرزتها تداعيات المرحلة الحرجة التي يعيشها العالم العربي، بل والعالم بأسره، حتى ظهرت الحقيقة المختبئة في صدور وعقول وقناعات كل الفرقاء. لقد تمترس وتخندق كل فصيل وتيار وفكر خلف طائفته ومذهبه وعرقه واصوله. إذاً، لم تستطع كل تلك العقود الطويلة من التسامح والانفتاح والتآلف والتصالح والاندماج والتعايش والكثير الكثير من تلك القيم والمعاني الجميلة التي لم تكن سوى قناعات مؤقتة سرعان ما حلّت محلها عناوين سلبية حينما استدعتها الحاجة الطائفية البغيضة. كثيرة هي الأسباب التي أدت لهذا الاحتقان الطائفي الذي تُعاني منه أغلب مجتمعاتنا العربية. أصحاب الفكر المتشدد من الدعاة والعلماء والمفكرين، والمناهج التي تُغذي روح الطائفية والعصبية، والكتب والدراسات والأبحاث التي تعزف على وتر الطائفية، والمنابر والخطب المؤدلجة والمشحونة، والإعلام الطائفي المسيّس بكل صحفه ومجلاته وقنواته التي تضخ خطاباً طائفياً كريهاً. حكومات وهيئات ورجال أعمال ومثقفون وعلماء وجهات مشبوهة، بل وحتى الإنسان البسيط جداً يُشارك في دعم وتمويل وتسويق هذه الحالة الطائفية الخطيرة التي تُهدد سلم وأمن واستقرار عالمنا العربي. كم نحن بحاجة ماسة لمكافحة ومحاربة هذه الآفة الفتّاكة التي تُهددنا جميعاً، وهذا لن يتم إلا بتظافر كل الجهود والطاقات والامكانيات، إضافة إلى وجود عمل مؤسساتي ضخم لدراسة هذه الظاهرة الخطيرة، وكذلك إلى تحرك كبير من قبل الحكومات والهيئات والدوائر العربية. الطائفية، هذه اللعنة المقيتة التي عانت منها مجتمعاتنا العربية، وتسببت في تعطيل عجلة التنمية والتطور والازدهار في الكثير من الدول العربية، لابد من صدها، بل واجتثاثها من جذورها، وهذا لن يكون إلا بنشر الوعي الوسطي، والقبول بالآخر كما هو، وسن تشريعات وتنظيمات واضحة تُجرم القول والفعل الطائفي، ومعاقبة كل من يزدري أو يمس معتقدات ومقدسات ورموز الآخر، والتصدي بحزم لخطاب الكراهية الذي تتبناه بعض المنابر والفضائيات والصحف، والتركيز على المشتركات وعدم الالتفات للخلافات، والتأكيد على دولة المواطنة بغض النظر عن الانتماءات المذهبية والفكرية. المشكلة ليست في التعددية الطائفية، فهي ظاهرة صحية وطبيعية، ولكن في فشل المجتمعات بنخبها ومكوناتها في إدارة هذا التعدد والتمايز.