الرياض - السعودية "ولو شاء ربّك لآمن من في الأرض كلّهم جميعًا أفأنت تكره النّاس حتّى يكونوا مؤمنين" (يونس 99). نفهم من هذه الآية الكريمة، بأن التعدد والتنوع، بل والاختلاف، مشيئة إلهية وسنة كونية، إذ تركت للناس - كل الناس - مساحة كبيرة جداً من الحرية لممارسة الاختيار والفرز والقبول بما يتناسب مع فكرهم وقناعاتهم، بل وحتى مع رغباتهم ومصالحهم الشخصية، تحقيقاً لفلسفة الامتحان المفروضة على بني البشر في حياتهم الدنيوية، وتأكيداً على مبدأ الثواب والعقاب الذي ينتظرهم في الدار الآخرة. انطلاقاً من هذه الرؤية الكونية للتعددية كفلسفة فكرية وسلوك حضاري ومزاج إنساني ادركت المجتمعات المتحضرة، قديماً وحديثاً، بأن التنوع والتعدد والتمايز، بل والاختلاف والتباين، يشكل مصدراً للثراء والغنى والتميز، وليس مدعاة للتنافر والتصادم والتمييز. هذه الإشكالية المعقدة، تبدأ عادة من فهم المصطلح، ولكنها كنتيجة لذلك تؤول إلى نهايات غيرة سعيدة، خاصة حينما تتموضع بسذاجة فكرية وبتعريفات قشرية في مجتمعات العالم الثالث التي تعشق اللون الواحد والطيف الواحد والفكر الواحد. هذه "المجتمعات النامية"، هنا وهناك، لا تعي أهمية وضرورة وتأثير التنوع كبيئة خصبة للتناغم والاندماج والتكامل المجتمعي، بل إنها وهنا المصيبة العظمى توظف تلك الحالة التعددية التي تتمتع بها في إذكاء روح التشظي والاحتقان والانقسام. حينما آمنت تلك المجتمعات المتطورة والذكية بحياة التنوع والتعدد والاختلاف في أغلب تفاصيلها، وذلك وفق ضوابط وآليات وقوانين تم التوافق عليها مجتمعياً وقانونياً، ظهز كنتيجة حتمية لكل ذلك الايمان بالتعددية الكثير من الأطر والمفاهيم والتصنيفات الفكرية، وشاعت بل وتجذرت مصطلحات ومناهج وتيارات وقيم فكرية كالليبرالية والعلمانية واليسارية واليمينية والكثير غيرها. نعم، تمظهرت تلك المبادئ / القيم الفكرية بشقها الايجابي، وفي سياقها الطبيعي والتى تتبنى النظرة الاستقلالية والتوجه البراجماتي في الفهم والممارسة، ما انعكس ايجابياً على مسيرة تلك المجتمعات المتقدمة، رغم تعرضها الشديد للكثير من الصعوبات والممانعات والصراعات خلال عقودو بل قرون طويلة، ولكنها قررت وآمنت وتصالحت على هذا النمط الحياتي والنهج السلوكي والمزاج الفكري الذي يتناسب مع تطور حركتها ومسيرتها الحضارية. أما مجتمعاتنا العربية، كأحد الامثلة الصارخة على المجتمعات العالم الثالثية، فإنها وقعت في فخ التصنيفات الفكرية ولكن بشقها السلبي للأسف الشديد، وتلك عادة عربية أصيلة كما يبدو مازالت مستقرة في الوعي والوجدان الجمعي العربي، ولم تستطع كل المحاولات والمبادرات والتضحيات أن تصل بهذه التصنيفات الفكرية لشاطئ الممارسة الطبيعية والواقع الإيجابي، بل على العكس تماماً، فقد شكلّت – أي التصنيفات الفكرية - منصة كريهة وعنواناً مقيتاً للتجييش الطائفي والتعبئة الفئوية، ولم يعد قاموس التصنيفات الفكرية مقتصراً على تلك المفردات/ المصطلحات المعروفة، ولكنه يتزايد بشكل كبير ومخيف. صفوي وجامي وناصبي ورافضي وقاعدي وقبيلي وخضيري وحضري وزنديق وإخواني، والكثير الكثير من هذه التصنيفات الكريهة التي يغص بها قاموس التصنيفات الفكرية المقيتة. بصراحة شديدة، لقد عانى مجتمعنا كثيراً من أثر هذه التصنيفات الفكرية على وعيه الجمعي ووحدته الوطنية، إضافة إلى خطورتها على واقع الخطاب الثقافي. نعم، نحن مجتمع متعدد ومتنوع ومتمايز، ولكنه لا يحتاج إلى هذه التصنيفات الفكرية التي كرست الطائفية والعصبية والمناطقية والفئوية، وأنتجت خطاباً ثقافياً إقصائياً ومتشدداً. ما نحتاجه الآن، وأكثر من أي وقت مضى هو الايمان الحقيقي بمبدأ التنوع بمختلف أشكاله ومستوياته، لأنه يمثل كل القيم والمضامين الايجابية التي نبحث عنها كاحترام الاختلاف وإعطاء الحرية للآخر، وقبول الرأي المختلف، وإشاعة ثقافة الحوار والتسامح والتعايش السلمي والتنوع الثقافي والفكري والعقدي. التصنيف الفكري بنسخته العربية، عادة يلزم التمحور والتخندق حول مجموعة من الصفات والعناوين كالتشدد والانغلاق والتحزب والإلغاء والإقصاء والاستعداء، بينما التنوع كنهج فكري ونمط سلوكي يرتكز على مبادئ التقارب والتفاهم والتعايش ويغلّب المصلحة الوطنية العليا على كل المصالح والتطلعات الفئوية الضيّقة. وطننا بما حباه الله من خيرات وثروات وإمكانات، مادية وبشرية، وبما يتمتع به من تنوع ثقافي وفكري واجتماعي وإرثي لا مثيل له على الإطلاق، يستحق أن يصل إلى مستويات متقدمة من التطور والتحديث والتنمية والرفاه، وهذا لن يحدث إلا بتوفر إيمان حقيقي بأن التنوع والتعدد والاختلاف، تمثل مصدراً للقوة والاندماج والتكامل والإنجاز، وليست سبباً للإقصاء والتهميش والتمييز. "لا للتصنيف.. نعم للتنوع" ليس مجرد شعار، ولكنه ضرورة..