ما يحدث الآن في العالم العربي من احتقانات وأزمات، تجتاح الشوارع والميادين العربية، بل والفكر والمزاج والسلوك العربي بمختلف ألوانه ومستوياته، تُنذر بتحول هذه المنطقة الملتهبة أصلاً إلى بؤرة صراعات وتوترات واحتقانات طائفية وفكرية قد تتسبب، لا قدّر الله، في المزيد من الانقسامات والتصدعات في النسيج العربي الذي حيكت خيوطه المتينة منذ مئات السنين بوشائج الدم واللغة والمعتقد والكثير من الاعراف والتقاليد والعادات المتوارثة عبر الاجيال العربية، تلك الاواصر الرائعة التي تُشبه الانسان العربي حد التطابق. لقد مر العالم الإسلامي وخاصة مكوّنه العربي، في تاريخه الطويل والحافل بالكثير من الصراعات والضغوطات والتحديات، ولكن المرحلة الراهنة من مسيرة هذا العالم العربي المضطرب، تختلف كثيراً عن كل تلك المراحل السابقة، إذ تتعرض هذه المنطقة بأكملها إلى سلسلة ممنهجة من الاستهدافات والترصدات، سواء الداخلية أو الخارجية، تُحاول المساس بأمن وسلامة واستقرار ونماء هذه المنطقة المستهدفة، قديماً وحديثاً. أدركت المجتمعات المتحضرة، قديماً وحديثاً، خطورة هذا الداء العضال - الطائفية - الذي يفتك بجسد الأمم والمجتمعات، وأيقنت أنها لن تعيش في سلام وتتمتع بتنمية شاملة، إلا إذا ازالت كل اشكال الطائفية البغيضة كثيرة هي الاستهدافات والترصدات، ولكن أخطرها على الإطلاق هي الطائفية البغيضة التي بدأت تتمظهر في الكثير من التفاصيل والمجالات. الطائفية، هي الخطر الداهم الذي يُراد من خلالها تفتيت وحدة المنطقة، وزرع الفتنة بين مكوناتها المختلفة التي تعايشت كل تلك القرون الطويلة بحب ووئام وتآلف. وأكثر ما يُميز هذه المرحلة المضطربة، هو اعتلال واختلاط المفاهيم والتعريفات والرؤى، بحيث امتزجت المطالب الشعبية المحقّة مع دعوات التخريب والفتنة المذهبية، وتماهت حركات التحرر والتطلع مع شعارات وعناوين التغريب والانحلال. باختصار شديد، لم تعد هناك حدود واضحة لسقف المطالبات، حيث اختلطت مفردات الاصلاح والبناء التي تُنادي بحياة كريمة وتعليم جيد وعمل مناسب، مع صيحات كريهة تُشرّع العنف والقتل والازدراء. لقد اختلط الحابل بالنابل كما يُقال، ولم يعد بالإمكان فرز التطلعات الحقيقية التي تنشدها الشعوب الحديثة، مع تلك الاجندات والأهداف المذهبية والطائفية والعنصرية التي يُتاجر بها البعض. لقد فقدت بعض التيارات المتشددة، هنا وهناك، بوصلتها الفكرية والعقدية والإنسانية، بحيث غلّبت المصلحة الفئوية الضيقة على حساب مجتمعاتها وأوطانها. انحرفت تلك الوسطية التي كنا نُباهي بها، تلك الوسطية التي شدد عليها ديننا الحنيف، والتي تهدف إلى إشاعة التسامح والعدل والرحمة والانفتاح. لقد غابت، أو غُيبت كل تلك القيم والمبادئ الاسلامية الأصيلة، لتحل محلها، ثقافة العنف والقتل والتكفير، ولغة الكره والتعصب والطائفية. ولكن، كيف وصلنا إلى هذا الوضع المزري، وإلى هذه الحالة المتردية؟ ومن هو المسؤول عن تفشي هذه الآفة الفتاكة - الطائفية - التي تُهدد مجتمعاتنا العربية والإسلامية؟ وكيف نواجه هذه الظاهرة الخطيرة التي تمددت إلى كل تفاصيل حياتنا؟ أسئلة كثيرة حول مسألة الطائفية، تحتاج إلى إجابات شافية، لا إلى التفافات وتطمينات لا فائدة منها. الحوار، الإعلام، المناهج، العقاب.. هي أهم المحاور الرئيسية التي نحتاج الوقوف عندها للقضاء، أو التقليل من حدة هذه الظاهرة البغيضة التي تُنذر بخطر يتهددنا جميعاً. الحوار، هو الاسلوب الامثل لمواجهة هذه الظاهرة، لان الحوار كثقافة ضرورية وقيمة حضارية بحاجة إلى أن يتجذر في فكرنا وسلوكنا، وذلك للخروج من نفق الطائفية المظلم. نحن نحتاج للكثير من المراكز والمؤسسات، الرسمية والخاصة، لإشاعة ثقافة الحوار بين مختلف مكونات وشرائح المجتمع، كما نحتاج إلى رموز وشخصيات وطنية تُدرك خطورة الطائفية، لا أن تميل لأهوائها وغرائزها الضيقة. المناهج، خاصة في المراحل التعليمية المبكرة، بحاجة لان تغربل وتنقى من كل شوائب الاختلاف والصراع والفتنة والاتهام. يجب التركيز على المشتركات، وهي الأكثر، والابتعاد عن الخلافات والتفردات. مناهجنا، يجب أن تُؤصل ثقافات وسلوكيات الاعتدال والتسامح والانفتاح والتآخي والقبول بين كل المكونات والفئات، وأن تدعو إلى الانصهار والاندماج والانسجام في حضن الوطن، وأن تُكرس مبادئ التنوع والتعدد، باعتبارها مصدراً للتميز، وليس مدعاة للتمييز. أما الإعلام، لاسيما الجديد منه، والذي يُهيمن تقريباً على كل مصادر الحياة، من علم ومعرفة وترفيه واقتصاد وثقافة، فإنه بكل وسائله ووسائطه وتقنياته الهائلة، أصبح منبراً كبيراً لإنتاج وتسويق الطائفية البغيضة، حيث أتاح لخفافيش الظلام ودعاة الفتنة المذهبية ومشايخ الفرز الطائفي، المشاركة في منافسات التجييش المذهبي والتعبئة الطائفية. الإعلام، بما يحمله من رسالة هادفة ومسؤولية كبرى، لابد أن ينحاز لمصادر التقريب والتسامح والانفتاح والحرية، وكذلك عليه أن يُمارس دوره الفاعل في صياغة وتشكيل وتوجيه الوعي المجتمعي باتجاه الوحدة الوطنية بين كل مكونات الوطن. الإعلام المسؤول، هو من ينشر مبادئ الحق والعدل والمساواة والحرية والتسامح، لا أن يبث سموم الطائفية ويُروج لها. العقاب، هو المحور الرابع الذي لابد من إقراره وتفعيله، لأنه يضمن سلامة وأمن واستقرار المجتمعات. وفي مثل هذه الظروف الاستثنائية التي تمر بها المجتمعات العربية، نتيجة تفشي هذه الظاهرة الخطيرة، تقتضي الحاجة تشريع وسن بعض القوانين والتنظيمات والآليات التي تُجرم كل أشكال ومستويات الطائفية اللعينة، وضد كل من يرفع شعارات أو عناوين طائفية ضد أي فرد أو مكون أو طائفة. كل من يمتهن الطائفية، قولاً أو فعلاً، ومهما كان حجمه أو موقعه، لابد أن يكون تحت طائلة القانون والعقوبة والتجريم. كثيرة، هي التحديات التي تواجه العالم العربي، ولكن الفتنة الطائفية، تأتي في مقدمة كل تلك التحديات، لخطورتها الكبيرة كآفة تنخر في بنية المجتمعات العربية. لقد أدركت المجتمعات المتحضرة، قديماً وحديثاً، خطورة هذا الداء العضال - الطائفية - الذي يفتك بجسد الأمم والمجتمعات، وأيقنت أنها لن تعيش في سلام وتتمتع بتنمية شاملة، إلا إذا ازالت كل اشكال الطائفية البغيضة، ووظفت كل مصادر التنوع والتعدد التي تتمتع بها لبناء مجتمعات قوية وصحية ومنتجة..