كان قد مر وقت طويل على كتابتي لأول قصيدة نثر عندما اكتشفت أنني كتبت قصيدة نثر. بل لعلي اكتشفت في تلك اللحظة أنني تجاوزت مرحلة البدء الى مرحلة الانغماس الكلي في التجربة. لا يعنيني كثيرا تأريخ البداية أو ملاحقتها بشكل توثيقي كما يحدث عادة بعصابية عربية لم تقتصر على النقاد بل تمترس خلفها الكثير من الشعراء ممن يكتبون قصيدة النثر وممن لا يكتبون تلك القصيدة .. ثم أنني لا أعرف بيقين لماذا علينا، شعراء ونقادا ومتلقين، أن نعرف تلك الحدود الفاصلة بين الجغرافيات الشعرية التي لا تحتمل وجود حدود فاصلة بينها؟ ولماذا على الشعر أن يتجزر في جزر منفصلة لا يربط بينها الا ماء التسميات المستمدة من جذر الشعر نفسه؟ لا ضرورة لذلك كما ارى، وتجربتي الذاتية في الكتابة الشعرية والتي تشظت حتى الآن بين كل التسميات السائدة للقصيدة تساندني فيما أذهب إليه.. القصيدة هي القصيدة.. ولا أعتقد أن أحدا من الشعراء أو النقاد أو حتى المتلقين نجح بشكل تام وعلى مر التاريخ البشري كله في وضع تعريف جامع مانع لها على الرغم من كل المحاولات التي لم تفلح الا في تقديم النماذج التطبيقية، ولا اعتقد أن الشعراء ومحبي القصيدة بحاجة للقصيدة كنموذج تطبيقي بقدر حاجتهم لها كشكل من أشكال الحياة وملاذ أخير للبشرية في بحثها الدؤوب عن الجمال المجرد . القصيدة هي القصيدة إذاً، ولا يهم بعد ذلك ماذا يمكن أن نقرأ عنها وصفا لها في إطار تلك التسميات التصنيفية التي تحاول النيل من فكرة الشعر برمته بشكل مقصود أو غير مقصود على حد سواء وهي تجتهد في التصنيف حتى لو كان ذلك التصنيف أحيانا ضد فكرة الشعرية برمتها. لست متأكدة تماما من قصيدة النثر الأولى التي كتبتها، لكنني على الأقل أعرف القصيدة الأولى التي نشرتها من دون أن أعرف أنني غمست روحي في بحر هذه القصيدة الإشكالية ذات النمط الملتبس، نظريا . فقد بقيت أسبح في ذلك البحر طويلا بعدها وعلى مدى كل ما انتجت من كتب صدرت لي بعد الكتاب الذي نشرت فيه هذه القصيدة وغيرها من قصائد نثر.قبل أن انتبه، او ربما قبل ان ينبهني الآخرون الى أنني أصبحت شاعرة قصيدة نثر أنا التي خضت تجاربي الاولى وفقا لعمود الشعر الكلاسيكي وعندما أقدمت على مرحلة النشر كانت قصيدة التفعيلة هي عنواني الشعري الوحيد.. على الرغم من اجتهاداتي المستمرة في البحث عن أشكال جديدة كانت لا تتعدى آنذاك الخلط بين القصيدتين في قصيدة واحدة. كنت أنتج نصي قلقة من شكله العام لكن من دون ان أحدد ملامح ذلك القلق. على أن أجمل ما في الأمر أن روحي الشعرية ظلت دائما تواقة لكل مختلف ومخالف للسائد وشاذ عن المألوف الإبداعي على الأقل. القصيدة هي القصيدة ، والشعر هو الشعر.. ودعوا عنكم تلك التعريفات التصنيفية التي لا نبغي أن تخرج من قاعات الدرس ومحفوظات طلاب الأدب وإلى حد ما مقولات نقاده النظريين .. أما الشعراء والمتلقون فلن يفيدهم كثيرا ولا قليلا أن يصنفوا ما ينتجون وما يتلقون من شعر على أنه قصيدة نثر أو قصيدة تفعيلة أو قصيدة عمودية أو .. أو... إلخ من تلك التسميات التصنيفية الغبية. فكما فشل البشر في تعريف الشعر لا بد لهم أن يفشلوا في تعريف كل قصيدة أو مدرسة شعرية على حدة حتى وهم يخضعون جميع ما أنتجه الشعراء من قصائد لاختبار التصنيف بغض النظر عن أقيسة ومعايير ذلك التصنيف. (*) من شهادة شخصية حول قصيدة النثر