أن تشهد حياتك انهيار أمبراطورية كبرى، ومن ثم مآسي حربين عالميتين، فهذه أحداث كثيرة تحتاج إلى حيوات عدة لتستوعب أهوالها وتسارع وقعها وانعكاساتها على مجريات التفاصيل التاريخية حولك. . لذا قد يكون هذا الزخم التاريخي جزءاً من القيمة الإبداعية الوافرة التي لكتاب الأديب عزيز ضياء (حياتي مع الجوع والحب والحرب)رغم أنه يجعل التوثيق التاريخي لتلك المرحلة في خلفية المشهد السردي ويقدم أمام القارىء التفاصيل الإنسانية اليومية البسيطة التي يعيشها طفل صغير يتفتح وعيه على هذه الحروب والمآسي الكبرى، إلا أن هذا لا يمنع أن يقدم لك كقارىء رصداً تاريخياً دقيقاً لتفاصيل تلك المرحلة...لكن من الداخل المستقل. ولعل جزءاً كبيراً من جمال السرد وعذوبته أن الذي ينقل لنا الأحداث والتفاصيل هو (عزيز ضياء الطفل) بجميع ماللأطفال من نظرة فضولية بكر مفعمة بالدهشة إزاء عالم الكبار وقوانينهم. الكتاب الضخم الذي يتكون من جزأين يتتبع تضاريس منعطف مفصلي في تاريخ المنطقة، ابتداء من بداية انكماش الامبراطورية العثمانية، وتفكك حاميتها في الأمصار التي كانت تهيمن عليها في الحجاز واليمن، وما تلا ذلك من أحداث سياسية تتعلق بحلف الأشراف والبريطانين وصولاً إلى تأسيس الدولة السعودية. بالتأكيد تلك الأحداث الجسام كان لها انعكاساتها المأساوية على أهل الحجاز وبالتحديد سكان المدينةالمنورة، حيث يسرد لنا المؤلف رحلة نزوحه عبر القطار( البابور) العثماني إلى الشام مع جده وأمه وخالته وذلك عندما أمر باشا المدينةالمنورة العثماني ( فخري باشا ) بإخلائها كي يتم تسخير مابها من مؤن وعتاد للجنود الذين سيدافعون عنها ضد جيش الشريف. عملية التهجير تلك اسموها (سفر برلك) والتي يتضمن تاريخها الكثير من المآسي والعذابات التي صادفها المهاجرون وانهيارهم إزاء الشتات والجوع والمرض الذي بدوره التهم جميع عائلة (عزيز ضياء) ولم يبق منهم سوى هو وأمه. فعادا إلى المدينة واستقرا هناك وتزوجت أمه من طبيب تركي ظل ولم يغادر مع الحامية التركية في المدينةالمنورة، وبعد سنوات من رجوعهما تأسست الدولة السعودية الثالثة واستقرت الأحوال في الحجاز. الكتاب هو قيمة فنية من ناحية وأيضا وثيقة تاريخية، كتب بأسلوب أدبي يعنى برصد التفاصيل الصغيرة والهواجس الشخصية الكامنة في أعماق الطفل السارد، مما يجعل القارىء في حالة ارتباط وصلة وثيقة مع العمل (نادرة هي الكتب التي تجعلني في حالة شوق لها يلازمني طوال يومي، كما حدث لي مع هذا الكتاب). يوميات ذلك الطفل في المدينةالمنورة تجعلنا نقدر ونجل ذلك الثراء العرقي والأثني الذي يضمه الحجاز منذ فجر الرسالة إلى الآن...... في تعايش وانسجام يندر أن يوجد في أي مكان في العالم، حيث المواطنون ذوو الأصول التركية والشيشانية، كما هي عائلة أديبنا (عزيز ضياء) الذي كان جده لأمه رجل دين جليلاً هو شيخ حملة الحجاج النقشبندية، يجاورهم جيران من أصول هندية، بينما من يسكن مقابلهم عائلة قدم أجدادها من إقليم بخارى في آسيا الوسطى. بالتأكيد هذا التعدد والغنى كان لها انعكاساته التي نراها اليوم في الفضاء الحجازي الذي نلمسه في أناقة التفاصيل اليومية من مسكن وملبس ومشرب وأسلوب تعاطي مع الفن والحياة، الذي بالتأكيد يحيلنا إلى هيبة وجلال وجمال فسيفساء الأعراق في الأراضي المقدسة. الكتاب هو جزء صغير من حكاية طويلة عاشتها المنطقة في مراحل التأسيس. كم أتمنى أن ينال الكتاب الاحتفاء الذي يليق به، كتدريس مقاطع منه في مناهجنا المدرسية، ومراجعته وإبرازه عبر دوائرنا الثقافية....أيضا جنباته تحوي مادة دسمة للأعمال الدرامية الجادة التي تريد أن تتتبع تاريخ المنطقة. قصة الطفل عزيز هي ملحمة مقاومة كبرى... تنتصر للإنسان وإصراره على أن يصنع فرقاً في محيطه...