أستاذنا الكبير المغفور له بإذن الله تعالى عزيز ضياء هو أحد رموز الثقافة والأدب والصحافة في المملكة والعالم العربي، ولد بالمدينةالمنورة، وكان مولده في زقاق الحبس، تنقل بعد ذلك في سكناه بين حاراتها القديمة، بعد عودته وأمه فاطمة بنت الشيخ أحمد صفا، والتي كان يسميها (ففَّم) وحيدين من رحلة (السفر برلك)، هذا المصطلح الذي يطلق على عملية (التسفير) التي قام بها (فخري باشا) وذلك بإجلاء سكان المدينةالمنورة منها، وترحيلهم الى بلاد الشام وتركيا في بداية الحرب العالمية الأولى ليبقي على المؤن والغذاء للحامية التي يرأسها، والتي كانت تحمي المدينة من هجمات (الشريف حسين)، بعد أن أغراه الانجليز - أي الشريف - بقيام الثورة العربية، وإجلاء الأتراك عن البلاد العربية مقابل تعيينه ملكا للعرب. ولكن تلك الوعود استبدلت بمعاهدة (سيكس بيكو) التي قسمت الأراضي التي كانت تحت سيطرة الدولة العثمانية وعاد المهجرون اثر تسليم (فخري باشا) المدينةالمنورة بضغط من مساعديه وفرصة حانت؛ حالت دون تفجير الحرم النبوي الشريف، وبعد أن واجه من بقي من أهلها فيها الجوع وأشرفوا على الهلاك، حتى أنهم أكلوا القطط والحمير والجثث الميتة وتعرضت اثر ذلك البيوت للنهب والسرقة. وكان أستاذنا، يرحمه الله، قد ذهب هو والدته وأخوه وخالته وأبنيها مع جده الشيخ أحد صفا، شيخ الطريقة النقشبندية وشيخ حجاج القازان الروسيين ضمن غالبية سكان المدينة، في رحلة الى المجهول، حيث قدر الله أن يموت جميع أفراد عائلته - كما مات الكثير من أبناء عوائل المدينةالمنورة هناك - ولم يبق سوى والدته وهو حين انتهت فترة (السفر برلك) وعادا من الشام وحيدين. لقد ترك الأستاذ (عزيز ضياء) وهذا اسمه الذي اختاره ليعرف به كاتبا و(ضياء) هذا هو زوج والدته وكان ضابطا تركيا تزوجته بعد أن أكمل عزيز السبع سنوات، وبعد أن طلقت والدته من أبيه غيابيا على المذهب المالكي، اثر سفر والده الى روسيا لجمع التبرعات لإنشاء الجامعة الإسلامية التي يشرف عليها فخري باشا، ولم يكتب لها النجاح، فتحول مبناها الذي أنشئ من أجلها الى مدرسة من مدارس التعليم العام. ويذكر ان والده قد مات هناك، وربما يكون قد تعرض لهجوم من الحيوانات المفترسة أودى بحياته، يرحمه الله، كما ذكر ذلك لي الأستاذ محمد القشعمي عن رواية الأستاذ له. أما زوج أمه الدكتور (ضياء) فقد كان يعمل في مستشفى المدينةالمنورة آنئذ وتوفي في مكةالمكرمة وهو في منصب رئيس عموم الصيادلة. ويقول عنه أستاذنا أنه صاحب الفضل في تربيته منذ صباه وحتى مرحلة الشباب. أقول ترك لنا أستاذنا يرحمه الله وثيقة تاريخية اجتماعية مهمة، يعتبرها الدكتور منصور الحازمي - كما سمعت منه - من أهم وثائق السير الذاتية التي صدرت في الفترة المتأخرة. ترصد حقبة تاريخية واجتماعية من أحرج فترات تاريخنا العربي والمحلي من خلال رصد سيرته الذاتية التي قام بنشرها ابتداءً في حلقات عبر مجلة (إقرأ) بطلب من الدكتور عبدالله مناع رئيس تحريرها آنذاك، ثم صدرت في ثلاثة اجزاء عنونها باسم (حياتي مع الجوع والحب والحرب)، وزع رحمه الله بعض نسخ منها اهداءً، ومازال الباقي يحتل غرفة من غرف المنزل الذي تقطنه ابنته الأستاذة دلال بعد أن أعياها توزيع نسخ من الكتاب على أي مكتبة تجارية، وحتى على وزارة الإعلام التي تعتبر هي جزءاً منها وهو - أي أستاذنا - كذلك، وتفضلت علي بتجشمها عناء إرسال نسخة لي منها. وقد قام الأستاذ محمد القشعمي بتسجيل حلقات معه يرحمه الله - أتيح لي أن أراها - ضمن عمله الوثائقي الهام "سلسلة تاريخ الأدب السعودي الشفوي" والتي تحسب للأستاذ القشعمي لما بذل فيها من جهد مشكور، تحدث فيها أستاذنا عن ما بعد المذكرات المرصودة في سيرته، وعن حياة ومصادر ثقافته، كما أضاف لي - أبو يعرب القشعمي - بأن الأستاذ عزيز ضياء قد أسر له بأنه يقوم بتسجيل المراحل التي لم ترصدها سيرته المكتوبة في المنزل على أشرطة فيديو، كلما سنحت له الفرصة. وأحسب أن حياة حافلة بالعطاء لا يمكن ان تقف عند حد المكتوب من تلك السيرة، ولقد سألت الأستاذة دلال ضياء عن هذا فلم تأكده لي، وقالت ان هناك العديد في (الأبواك) المكتوبة التي تقبع على مكتب أستاذنا دون أن نحركها من مكانها منذ وفاته يرحمه الله. ولعلي أقترح على "وزارة الثقافة والاعلام" ان تقوم بتحويل هذه السيرة الى مسلسل تلفزيوني يجسد تلك الفترة التي رصدتها السيرة، والتي توقفت عند مرحلة دخوله الشرطة، والتي قال عنها في آخر أسطر من مذكراته (وهكذا بدأت مسيرة مستقبلي الطويل في الشرطة.. وهو مستقبل يطول الحديث عنه كما تطول تفاصيل الكثير من الاحداث التي واجهتها وعانت مشاكلها في هذه السيرة التي أحمد الله سبحانه على أن أعانني على ان أخرج من أنفاقها قادرا على أن أكتب هذه الفصول). هذه لمحات من حياة أديبنا الكبير، وصور من سيرة علم من اعلام الثقافة العربية، ورموز الصحافة فيها، ورئيس جمعية مدخني (البيبا)، الأنيق الذي عمل في الهند مذيعا، وترجم للعربية من اللغات الأخرى اعمالا عظيمة خالدة ستخلد بخلوده في ذاكرة محبيه وتبقى ما بقي في قلوبهم. هذا القلب الرقيق الذي على رغم قسوة الحياة التي عاشها في طفولته في بلاد الشام، والتي تتضاءل أمام قسوتها كل متاعب الدنيا، الا انه لم يستطع الحديث، واغرورقت عيناه بالدموع عندما تحدث عن زوج والدته الذي رباه ورعاه في صغره وحتى مرحلة الشباب، وكأنه بذلك يعبر عن ندمه لسوء ظنه وعدم محبته لذلك الرجل الذي أحسن اليه أكبر إحسان، رعاه كما لو كان ابنا له بل يزيد، فمنح اسمه الخلود اذ انتسب له مبدعا. أكتب هذه الكلمات في إثر معرض الكتاب الدولي بالرياض الذي انتهى قبل أيام، وكرم خلاله رؤساء تحرير ومؤسسي صحافة الافراد، وكنت أتمنى أن يكون مناسبة لكي نرى سير هؤلاء الرواد تسجل كاملة وتطبع وتوزع في معرض تكريمهم، ليعرفهم الناس عن قرب ويحمدوا لهم ما بذلوه من جهد في تنوير العقول، ونشر الوعي، والثقافة التي تربينا عليها وتفتحت عيوننا على حبر اقلامها. وكنت أتمنى أن أرى سيرة أديبنا الأستاذ عزيز ضياء معروضة في احدى دور النشر التي غصت بها جنبات المعرض، التي لم أر في أي منها سيرة او ترجمة لأدبائنا الذين صنعوا تيار الوعي في بدايات تأسيس هذا الوطن الكبير.