الأحد 8/4/2012: ضمير ألماني يتجاوز غونتر غراس بشجاعة عقدة النازية الألمانية. كان الإثم يلاحق مواطني هذا البلد الأوروبي ولا يزال، عندما يتناولون شأناً يتعلق بإسرائيل. ولكن، إذا كان الهولوكوست اليهودي يستدعي التذكر لئلا يتكرر، فهناك غير هولوكوست ترتكبه إسرائيل وبلاد أخرى شرقية وغربية يستدعي تذكراً مماثلاً. «ما ينبغي أن يقال»، قصيدة غونتر غراس التي قوبلت برد فعل سلبي وتفادى كثيرون التعليق على مضمونها، إنما هي صرخة ضمير لردع ألمانيا عن ارتكاب إثم جديد، أخطر من الهولوكوست أو أقل خطراً، هو التعاون مع إسرائيل في حرب على إيران قد تلحق الأضرار ببلاد كثيرة. لم يستطع غونتر غراس النظر بحيادية الى الغواصات الحربية يهديها بلده الى إسرائيل، خصوصاً أن الدولة العبرية لم تحتفظ بصورة الحمل الوديع التي كانت في خمسينات القرن الماضي، دولة شعوب يهودية تطلب الأمان وهوية خاصة تطوي تاريخ الشتات. إسرائيل التي تهديها ألمانيا أسلحة فتاكة يحكمها يمين متطرف شبيه بالنازيين، يشرّع العدوان على الفلسطينيين مستنداً الى رابطة الدين والقبلية، مثل تجمعات بدائيين متعصبين. غونتر غراس، روائي وشاعر، لكنه بالدرجة الأولى مواطن ألماني صالح، وإنسان يدعم سلام البشر. الاثنين 9/4/2012: الفلاح السابق يقطعون السنديان الحيّ ليشعلوا نارجيلاتهم ويروا التلال جرداء، كما يرغبون. في بلادهم البعيدة، يعزّ النبات ويدخل الشجر في المحال. أقاموا بيننا كأنهم لم يغادروا بلادهم. نحن الفلاحين، سمعنا أصواتهم قبل أن نراهم في بيوتنا، يمنعون غناءنا، ويصحّرون حدائقنا، فنلجأ الى المنفى والذاكرة. وها أنا فلاح سابق يكتب من بلاد بعيدة، سعيداً باختيارها، بغاباتها الحانية. الثلثاء 10/4/2012: بلا حياة ولا موت كيف تلبي عواطفُنا العرض الكثير في سوق الموت، لا تكفي الدموع ولا الآهات، ضعفت قدرتنا على التمييز بين الضحايا الأبرياء ومجرمين يقتلون أنفسهم ليقتلوا الآخرين، ويسمّون ذلك عملية استشهادية؟ حاضر الشرق موت كثير وماضيه موت أكثر، ومستقبله لتزاحم نهايات فقدت مأسويتها، صار الموت حادثاً عادياً مثلما تصطدم سيارة بجدار. من يذكر الزمن يسيل مثل جدول رقراق فيداخلنا الإحساس بكل لحظة فيه، الفرح والأحزان العابرة والسعي الى الرزق والحب والاكتشاف. صار الزمن كياناً مختلطاً بلا معالم، مثل أن تغمرنا رغوة الأيام فتضيع أمامنا الجهات، يتوحد الكلام الهادئ والحماسة وشهداء لا ينتهون. كان ستينيو القرن الماضي يرون نقاط لقاء بين الشعر والموت، قرأوا ذلك لدى المتصوفة وشعراء أوروبيين، لم يقرأوه في الرثاء العربي الكلاسيكي، الملتبس غالباً بالتكسب مثل المديح والهجاء. من راينر ماريا ريلكه، بترجمة كاظم جهاد: «كان يعرف عن الموت ما يعرف كل واحد: إنه يستولي علينا ويجرنا الى الصمت. لكن، لأنها كانت تندفع رويداً رويداً في ظلام المجهول، لا منتزعة من بين يديه انتزاعاً، بل مفصولة عن عينيه بشيء من الرفق، ولأنه كان يحسّ بأن ساكني الشاطئ الآخر ذاك، صاروا يتلقون بسمتها الشابة مثل قمر، وينعمون بطيبة طبيعتها صار الموتى مألوفين عنده، كأنه، بفضل وساطتها، أصبح نسيباً لهم. كان يدع الآخرين يقولون، لا يصدقهم في شيء، وكان يدعو تلك البلاد (البلاد الرائعة الموقع)، أو (بلاد العذوبة الأبدية) ومتهمِّساً، يهيّء لبلوغها خطاه». كم يكثر عندنا الآمرون بتفخيخ البشر أو الذين يفخخون أنفسهم مبتذلين الروح الإنسانية لأهداف ستكون محل تشكيك في الآتي من الأيام. مع هؤلاء ماذا يبقى من معنى للموت، بالتالي من معنى للحياة؟ كيف يتكوّن شعر بلا مساحة للتأمل ونحن على حافة الجرائم؟ ما يمكن كتابته هو الوصف وحده، الوصف البارد. وكم نبدو في منزلة غريبة: بلا حياة ولا موت. الأربعاء 11/4/2012: قاسم حداد يحتفظ بحجر الشعر، بخبزه، بحبه، بذلك الجنوح الى الأسطورة، يؤلف الأسطورة هذه، من حقائق الواقع القليلة ومما يبقى من تراث بعد نخله، أي التفريق بين جوهره والأعراض. قاسم حداد مؤلف الأسطورة، صفة تعلو على الشاعر والكاتب، ذلك أن قراءاتنا اليومية تذهب بنا الى جفاف الثرثرة والإعادات والاستعادات. ذلك البحريني، ابن بلاده، مختبر الحداثة، تحنو على الخليج ويحنو عليها. أحدث ما وصلني من إصداراته «مكابدات الأمل» عن وزارة الثقافة في البحرين والمؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت. الكتاب إطلالة على قضايا ثقافية بحساسية حرية وديموقراطية، وهو مهدى الى ليلى فخرو وهشام الشهابي وعبدالرحمن النعيمي، ومفتتحه هذه الكلمات: «هذي بلادٌ سوف تبدأ مرة أخرى لفرط اليأس كنا نختفي في مائها السريّ كانت دمعة وصديقة لعيوننا تبكي علينا أو لنا لكننا في آخر الأسفار نستهدي بيقظتها ونعلن أنها فينا... بعيداً أنَ باقي وردنا في صدرها الماسيّ في تنهيدة المأخوذ نحو جمالها لا ننتهي كي يبدأ التأجيل لا يبقى لها فينا سوى الحجر الكريم على الكتاب». الخميس 12/4/2012: مذكرات عزيز ضياء نحتاج المزيد من المذكرات العربية، مرآتنا التي نفضل عليها صور الآخرين، لماذا هذا التفضيل؟ عزيز ضياء (1914 - 1997) الكاتب والحقوقي والمترجم السعودي الراحل، نشرت مذكراته دار التنوير في بيروت تحت العنوان «حياتي - مع الجوع والحب والحرب». المذكرات في جزءيها ليست تسجيلاً لحياة طفل ترحل مع أهله بين موطنه، المدينةالمنورة، ومدينتي حماة وحلب في نهايات الحرب العالمية الأولى، إنها صورة المتغيرات الكبرى في المشرق العربي بعد انهيار السلطنة العثمانية وقبل تشكل الدول الحديثة. صاحب المذكرات ينتمي الى عائلة تركمانية استوطنت المدينةالمنورة، وهي نموذج لعائلات تشكل حجماً سكانياً كبيراً في جدةوالمدينة ومكة المكرمة، أتت الى الحج من أصقاع العالم الإسلامي المتباعدة وبقيت في الديار المقدسة وحملت لاحقاً الجنسية السعودية، والواقع إن صلاتها بأوطانها الأصلية انقطعت بتعاقب الأجيال والمتغيرات المتلاحقة بين الواقع والجذور. وكم تشبه المذكرات في جانب كبير منها العمل الروائي، خصوصاً أننا نقرأ الحدث بعيني طفل يرحل مع جده وأمه وخالته، بعدما يستجيب الجد دامع العينين لأمر الباشا بإخلاء المدينة، فقط لأن جيش السلطان العثماني ينسحب، فحريّ بالرعية المخلصة أن تنسحب معه. وسيلة الانسحاب هي قطار الحجاز «الوابور»، وصولاً الى مدينة حماة حيث تنزل العائلة في «بيت الصابوني» ثم في بيت قريب من نهر العاصي. وبعد سرقة أموال العائلة انتقلت الى حلب حيث سكنت في «بيت الكيخيا»، والانتقال هذا يتزامن مع انسحاب الجيش العثماني وتقدم جيوش الحلفاء والعرب المتعاونين معهم: «لم أزل، حتى اليوم، أجهل كل شيء عن حقيقة العلاقة بين جدي وبين الباشا في المدينة، ثم بينه وبين الوالي أو غيره في حماة ثم في حلب. حكايا أمي عن هذه الأيام وقد سمعتها منها مرات ومرات، لم أجد فيها تفسيراً، أكثر من أن جدي كان شيخاً للطريقة النقشبندية وشيخاً للحجاج من القازق والتركمان. ولا أستطيع أن أفهم أثر هذه المشيخة على الباشا في المدينة أو في غيرها، بحيث كان رحمه الله يتمتع برعاية خاصة. منها على سبيل المثال أن جرايته من خبز الشعير في حماة ومن علب اللحم المفروم كانت وافية، وربما أكثر مما يحظى به الآخرون، فكانت أمي توزع بعضها على الجارات من أهل المدينة أو من أهل حماة. ومنها كذلك - وهو الأهم - استضافتنا في بيت الصابوني في حماة ثم في بيت الكيخيا في حلب». آخر مكان في رحلة العائلة الصغيرة، مدينة حلب، هناك يموت الطفل الذي ولد خلال الرحلة، ومن بعده تموت الخالة ثم الجد، قائد الرحلة، الذي لقي مصاعب وحصّل رزقه من صنع الأختام. لكن الألم الذي حزّ في نفسه هو عدوانية الشبان العرب عندما يسمعونه متحدثاً باللغة التركية. حسبها ميزة لأنها لغة السلطان فصارت نقمة بوجود الجنود الأوروبيين وانتشار القومية العربية. رحلة البحث عن كنف السلطان ووجهت بهزيمة العثمانيين وانكفائهم وبآلام العائلة وتعرضها مع غيرها الى وباء التيفوس. كان لا بد من التجربة علامة على تغير الزمن، لينكفئ من بقي من العائلة الى موطنهم الحقيقي المدينةالمنورة. أصبحت السلطنة العثمانية جزءاً من الماضي، حكاية تروى في الليالي، وولدت دول حديثة يذهب أهلها إلى أنماط عيش وعلاقات قانونية وأهلية، ولكل دولة مواطنوها، تجمعهم بمواطني الدول المجاورة علاقات الدين واللغة، وتفرقهم في غالب الأحيان المصالح، وما أكثرها.