في بداية الستينات الميلادية كان هناك مجموعة من الأشخاص الذين درسوا علم الاقتصاد في جامعة (كاليفورنيا-بيركلي) في أمريكا والتي تعتبر من أفضل الجامعات في العالم وقد استفاد هؤلاء الطلاب من خبرة جامعة بيركلي العريقة وتشربوا أسس الاقتصاد العلمية وبعدها عادوا إلى بلدهم الأصلية اندونيسيا. كانت اندونيسيا في ذلك الوقت تعيش واحدة من أسوأ أيامها الاقتصادية بسبب سياسات الرئيس سوكارنو العبثية وفي عام 1966 استولى الرئيس سوهارتو على الحكم بشكل عملي وأراد أن يغير الكارثة الاقتصادية التي حلت في البلد لذلك حاول الاستعانة بخبرة هؤلاء المجموعة من الاندونيسيين الذين عادوا من بيركلي –أمريكا وأعطاهم الصلاحيات لتغيير أسس الاقتصاد وكان له ما أراد فهذه المجموعة قامت بمعجزة اقتصادية بمعنى الكلمة حيث خفضت التضخم من 650% في عام 1966 إلى 13% في عام 1969ولك أن تتصور عزيزي القارئ المجهود الذي عملوه في 3 سنوات وهو وقت قصير جدا لتخفيض التضخم مئات المرات! قاموا بتعديل وتحسين مقومات الاقتصاد الاندونيسي بشكل جذري! قاموا برفع الدخل القومي للفرد 545% خلال 10 سنوات! وبلغ النمو الاقتصادي لاندونيسيا رقما قياسيا 6.5% سنوياً وبدأت الاستثمارات الخارجية تتدفق لاندونيسيا بشكل مهول وعاشت طفرة كبيرة! لكن كما يقول المثل (الأيام الحلوة ما تكتمل!) بدأ بعض الحساد وبعض الذين تضرروا من الإصلاحات الاقتصادية من الفاسدين والتجار بالإضافة إلى بعض أفراد الحكومة الذين ساءهم قرب الرئيس سوهارتو من هذه المجموعة بإطلاق الإشاعات ونسج الحكايات عن هذه المجموعة حتى وصل بهم الأمر لتسميتهم (مافيا بيركلي ) نسبة للجامعة التي تخرجوا فيها! وهناك عدة نظريات عن سبب هذه التسمية: منها أن المتضررين من الإصلاح الاقتصادي أرادوا تنفير الناس من هذه المجموعة الذين كانوا بنظرهم أبطالاً! ومنها أن الرئيس سوهارتو نفسه خاف من شعبية هؤلاء على حكمه لذلك أراد أن يستفيد منهم وأيضا ينفر الناس منهم في نفس الوقت! وهناك من يقول إن بعض مجموعة بيركلي قد تخللهم الفساد وبدأوا بجمع النفع لأنفسهم! عموما بغض النظر عن صحة أي نظرية فان الرئيس سوهارتو أبعدهم عن صنع القرار ولكن عندما يواجه مشكلة اقتصادية يحضرهم لحلها وبعدها يركنهم! لأنه كان هو شخصياً مستفيداً من الفساد الحاصل في اندونيسيا! إلى أن تمت إزاحته 1996بعد ثورة شعبية بعد الأزمة الاقتصادية التي ضربت النمور الآسيوية. تذكرت هذه القصة قبل فترة عندما سألني أحد الزملاء عن رأيي في كتاب حديث صدر من بروفسور في الجامعة الاسترالية بعنوان(صعود اندونيسيا وإعادة تموضع العملاق الآسيوي الثالث)للعلم عدد سكان اندونيسيا 238 مليوناً وعدد اليد العاملة حوالي 120 مليوناً ومتوقع لها في عام 2050 أن تصبح الاقتصاد الثالث في آسيا أي تزيح اليابان وكوريا!لكن كل هذا مرهون بمحاربة الفساد الذي تجذر باندونيسيا بقوة والتي حاربته مجموعة(مافيا بيركلي) إلا انه اقتلعها بدل أن تقتلعه! نفهم من هذا كيف كانت ما تسمى (مافيا) مفيدة لبلدها ولو استمروا لرأينا اندونيسيا اليوم من الدول الصناعية الكبرى بدل أن تنتظر 40 سنة أخرى! نستنتج من القصة شيئين أولا: أن الرئيس سوهارتو كان يعلم بكفاءة هؤلاء لكن كان يستخدمهم فقط وقت الضرورة وبعدها يهملهم مراعاة لمصالح كبار التجار والجيش ومصالح عائلته الشخصية ثانيا أن المعجزات الاقتصادية ليست مستحيلة إذا وجدت إرادة سياسية (خلال 3 سنوات فقط عدل الاقتصاد جذرياً وخفض التضخم مئات المرات) وأمثلة المعجزات الاقتصادية حول العالم كثيرة عند وجود الإرادة. وكمثال آخر دبي التي كانت قبل وقت قصير( في تاريخ الدول) مطارها ترابي والآن حصل طيرانها على أفضل طيران في العالم! أيضا تمثل هذه القصة مثالا لنجاح المبتعثين في تغيير شعوبهم كما فعلت بعثات ميجي في اليابان وبعثات بيركلي في اندونيسيا وبعثات كوريا وماليزيا! لكن الأهم أن يعطوا فرصة وصلاحيات! مما قيل هذا الأسبوع: قبل فترة قدمت طلب وظيفة للتطوع في نزاهة حتى لا تعاد علينا الديباجة الشهيرة (أنتم الكتاب تنظرون ولكن لا تعملون) وإلى الآن لم يأتني رد من نزاهة! أعتقد أننا عملنا ما علينا وحاولنا المساعدة والكرة في ملعبهم وكما يقول المثل الشهير (تستطيع أن تجلب الحصان للنهر ولكن لا تستطيع إجباره على الشرب!)