مَن يخلف الرئيس الجزائري بوتفليقة يظلّ مثار جدل داخلي، فعلى الرغم من أن تاريخه مع بلده بدأ بسنيّ عمره المبكر، بالانخراط في صفوف جيش التحرير الوطني، وكان وزيراً للخارجية فترة طويلة، لكنه الرئيس الذي واجه مصاعب لا تقل قسوة عن مرحلة ما بعد الاستقلال وبناء الدولة المستقلة عن واحد من أطول استعمار في التاريخ.. كان الفساد والمحسوبية، وما يشبه الحرب الأهلية، بارزة كأخطر التحديات أمام بوتفليقة، ورغم أنه تعسر بولايته الأولى في القضاء على المشكلات المتجذرة، إلا أنه قاد المصالحة الوطنية بولايته الثانية في إيقاف الأعمال العسكرية بين الإسلاميين، والجيش، وهي الخطوة التي عززت موقفه، بأن يبدأ مشروعه الإصلاحي الداخلي، ليذهب إلى خلق توازن بين السياسة الداخلية، والخارجية، فكان من الداعين إلى وحدة المغرب العربي، إلا أن مشكلة الصحراء عاندت هذا المشروع، بل إن القطيعة بين البلدين صارت إحدى الأزمات التي اقتضت غلق الحدود، وتدويل القضية بدلاً من حلها بين البلدين.. الجزائر، لا تزال فرنسا بشكل خاص تراها «ترمومتر» سياستها في المغرب العربي، لأنها الأغنى في الموارد، والأهمية في الموقع الحساس، والقناة التي تعبر منها إلى بقية الدول، حتى إن مشكلة مالي الأخيرة، لولا مساعدة الجزائر، لما استطاعت فرنسا القضاء على الأزمات المتصاعدة فيها، وحتى بقية الدول الأوروبية المطلة على البحر الأبيض المتوسط، وكذلك المحيطة بها في القارة الأفريقية، لازالت الجزائر تؤكد دورها الاستراتيجي والاقتصادي فيها.. ومع الربيع العربي، كانت الجزائر الدولة المرشحة بعد تونس وليبيا لأنْ تهب فيها ثورة مماثلة، لكن تسارع إصلاحات الرئيس بوتفليقة عطلت آلة الثورة وانتفت الاحتمالات التي جعلت الأنظار تتجه لها، ومع مرض الرئيس وكثرة التقولات والهواجس، فالترشيحات تطرح أسماء قيادية ليست على نفس القوة، أو الشعبية التي حظي بها بوتفليقة، لكن المرحلة تستدعي وقفة شعبية حتى لا تحدث اضطرابات أو فراغ سياسي يؤدي لتدخل الجيش وفق سوابق ماضية، لأنه في الواقع السياسي الجزائري يشبه ما كان للجيوش في تركيا، ما قبل أردوغان، وكذلك مصر وباكستان، والخوف من عودة العسكر للحكم أمرٌ تقرره الحالة الأمنية، والظروف الطارئة لما بعد الرئيس وهي مشكلة دول العالم الثالث التي لا تزال تعيش حالة الانقسام لأي واقع مستجد يخلق فراغاً سياسياً.. تعد الجزائر من الدول الغنية بمختلف الثروات النفطية، والغاز، والمساحات الهائلة الصالحة للزراعة، وكذلك المعادن، وامتيازها بجوار قريب مع أوروبا يعطيها فرص أن تكون دولة صناعية مميزة قادرة على جلب كفاءاتها المهاجرة في فرنسا والدول الأوروبية الأخرى، بمعنى أنها قوة اقتصادية وبشرية لو تم توظيف هذه الإمكانات باتجاه التنمية الوطنية الشاملة.. لقد دخلت الجزائر ما يشبه مرحلة الانعزال عن القضايا العربية، ولكنها لم تخرج عنها وقد تكون الأسباب خاصة بها عندما تفسر الأحداث بأنها تجاوزت المألوف إلى المأزق وهو منطق صحيح في وطن يشكو نفسه لنفسه..