لم تشهد الجزائر منذ استقلالها العام 1962حراكا ثقافيا متقدا مثل الذي صنعته فعاليات الجزائر عاصمة الثقافة العربية العام 2007التي اختتمت رسميا يوم 25جانفي/ يناير، فعاليات رجّت الراكد، وكسّرت المألوف وأخرجت أهل الثقافة ومحبيها من قوقعتهم التي فرضتها ظروف داخلية صعبة ومخلفات عشرية أمنية سوداء تدحرج خلالها الفعل الثقافي إلى أدنى مستوياته، لتضع الجميع على المحك، فمنهم من رقص للمناسبة فرحا فتفاعل وأبدع، ومنهم من واصل تقوقعه ولم يول للحدث أهمية فراح بدل التعاطي الإيجابي معها يوغل في النقاش العقيم فلم يفد ولم يستفد. ولن نكون منصفين إن قلنا أن عاصمة الثقافة العربية فشلت في تحقيق الأهداف التي سطرت لها منذ انطلاقها في يناير 2007واختتامها سنة بعد ذلك، فبالبرغم من الانتقادات التي ما تزال توجّه عامة لفكرة العاصمة الثقافية نفسها لعل أبرزها الغلو في تكريس المركز على حساب الهامش والمبالغة في الاحتفاليات الفلكلورية الشعبية وقلة الاستفادة أو الاستثمار في الأموال الطائلة التي ترصد للتظاهرة لزيادة البنى التحتية الثقافية مقابل الاكتفاء بما هو موجود مع الحرص على "تزويقه" مجددا، فإن الجزائر نجحت على الاٌقل في "الانتصار" للرهانات والتحديات التي أطلقتها بداية توشيحها عاصمة الثقافة العربية، وفي مقدمتها أن تكون عاصمة ليس فقط للثقافة العربية بل للثقافة الأورومتوسطية والأمريكو لاتينية سعيا منها لمد جسور التواصل مع الآخر في وقت تحتاج الثقافة العربية إلى قنوات توصل وجهها المشرق إلى من يتقاسم معها جغرافية الأرض بعيدا عن المسخ والتشويه. وشكلت ما اصطلح على تسميتها ب "المشاريع الكبرى للرئيس بوتفليقة" أحد أهم وأكبر التحديات التي راهنت الجزائر على تحقيقها خلال العام 2007، أنشئت من أجلها وبمرسوم حكومي ما يعرف ب "الوكالة الوطنية لتسيير وإنجاز المشاريع الكبرى للثقافة" بهدف مرافقة هذه المشاريع ومتابعة تنفيذها ميدانيا، لكن بعض هذه المشاريع كانت ولادتها سلسة بهية الطلعة مثل المتحف الوطني للفن الحديث والفن المعاصر ومتحف المنمنمات والزخرفة وفن الخط الذي يستأنس بعبق تاريخ قصر مصطفى باشا حيث مقره، والمركز الوطني للبحث في علم الآثار وإقامة الفنانين والمبدعين التي تتخذ من "دار عبد اللطيف" التاريخية عنوانا لها، فيما تعسر خروج البعض الآخر للعالم، ليس لنقص الموارد المالية بل لضخامة المشاريع التي يتطلب تنفيذها أكثر من سنة، أبرزها مشروع المكتبة العربية اللاتينو-أمريكية التي اختيرت الجزائر أن تكون مقرا لها خلال الاجتماع المشترك لوزراء الثقافة للدول العربية ودول أمريكا الجنوبية المنعقد بالعاصمة الجزائر في فيفري / شباط 2006، ومشروع المركز العربي لعلم الآثار الذي تقرر إنشاؤه خلال المؤتمر العربي ال 17للتراث الأثري العتيق والحضاري المنعقد في ديسمبر/ كانون الأول العام 2003بنواكشوط الموريتانية والأهم منهما الفيلم السينمائي الضخم "الأمير عبد القادر" مؤسس الدولة الوطنية، الذي أراده الرئيس الجزائري عبد العزيز فيلما هوليوديا وأوعز بمنحه التمويل الذي يستحقه بلا حساب، لكن الفيلم تعثر لأسباب فنية بحته. وبعيدا عن الأرقام التي رافقت مختلف مفاصل الحراك الثقافي الذي شهدته الجزائر طيلة عام بأكمله ( 45عرضا مسرحيا و 44فيلما سينمائيا وسمعيا بصريا و 48أسبوعا ثقافيا محليا و 23معرضا للفنون البصرية و 16معرضا للتراث الثقافي و 25مهرجانا حول مختلف التخصصات الفنية، و 12ملتقى ومنتدى فكريا دوليا و 21أسبوعا ثقافيا عربيا ) كان الكتاب سيد المقام كله بامتياز، ولم يكن سهلا لبلد أديرت حول كتابه ومثقفيه ومبدعيه ما يشبه الحرب قادتها جماعات موت أغرقت البلاد في دوامة من العنف لم يعد للمثقفين فيها مثلهم مثل بقية المواطنين سوى الأمل في النأي بأنفسهم وذويهم بعيدا عن أذى هؤلاء، أن يعيد الحياة في النفوس التي تآكلت جنباتها من يأس اليوم وعتمة الغد، فيشدّها مجددا لفعل التدوين والقراءة ويقوّي صلتها ثانية بعوالم النشر والتأليف، فكان رهان مشروع "ألف كتاب وكتاب" وكم كانت المفاجأة كبيرة والجزائر تختتم عرسها الثقافي الكبير بطبع ونشر ما يزيد عن 1008كتاب رقم ضخم يعدّ سابقة في تاريخ البلد الثقافي لكن تحقيقه كان ضروريا لإثبات الذات وتقديم البديل الإيجابي للعنف، للتطرف، وللتدشين الفعلي لمرحلة ما بعد الإرهاب التي أعيت الجميع، وهو ما كان وراء قرار تمديد تجربة مشروع "ألف كتاب وكتاب" للخمس سنوات المقبلة بما يتيح لجيل الشباب من المبدعين تقديم تجاربهم بأصواتهم التي لا تقول حتما نفس ما تقوله أصوات من سبقوهم من جيل أدباء السبعينيات. وشهدت الترجمة انتعاشا غير معهود خلال التظاهرة ومكنت جهود المختصين من ترجمة 90عملا إبداعيا من روائع الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية لأسماء جعلت الجزائر بلا منازع عاصمة الرواية في منطقة المغرب العربي وهي مالك حداد ومولود فرعون وكاتب ياسين ومولود معمري ومحمد ديب وآسا جبار ورشيد بوجدرة وغيرهم. ولعل الغائب الأكبر في تظاهرة الجزائر عاصمة الثقافة العربية كان اتحاد الكتاب الجزائريين، الواجهة الثقافية الأولى للبلاد، وذلك على خلفية نزاعات داخلية وصلت القضاء غذتها حسابات سياسية كرّست الخصومة داخل الإتحاد وكسّرت عوده، وأدّت إلى تعليق عضويته في اتحاد الكتاب والأدباء العرب إلى حين يفصل القضاء في ملف الإخوة الفرقاء الذين يتنازعون إدارة الإتحاد الغارق في مشاكله منذ اختلط السياسي بالثقافي. وغاب الإتحاد بشكل لافت عن فعاليات كان حضوره فيها أكثر من مهم مثل "ليالي الشعر العربي" و"إقامات الإبداع" و"الأسابيع الثقافية الولائية" التي كانت تنتظم بالموازاة مع الأسابيع الثقافية العربية ولم تتجاوز الكتب التي اقترحها الاتحاد للنشر أصابع اليدين في حين بلغت العناوين التي صدرت عن اتحاد الكتاب خلال سنة الجزائر في فرنسا العام 2006ما يقارب 80عنوانا وترجمة ما يفوق عن 35عملا من اللغة العربية إلى الفرنسية.