ربما كان من المهم جداً بالنسبة لي على الأقل، أن حظيت بفرصة مشاهدة فيلم "الحي الصيني - Chinatown" 1974 دون أي معلومات مسبقة عن هذا العمل الفني البديع وارتباطه بالمخرج المثير للجدل البولندي الفرنسي "رومان بولانسكي"، فهنا بالتحديد كونت انطباعي الأول عنه كمخرج مختلف ومميز، ثم لاحقاً توالت الجرعات الثقافية عن سينماه مدعومة بالكثير من القصص الفضائحية التي تبرع هوليوود في ترويجها لخلق مزيد من الحراك هو حتماً مؤشر لمزيد أرباح ولا حاجة للوعظ بشأن الأخلاق بل والفن كذلك. من المثير أن علاقتنا الثقافية الفنية برومان بولانسكي لم تخرج عن سياقها الجدلي في قصة عمرها -ثلاثة عقود ونيف-، وهو الآخر لم يزل مرتبطاً بها ولو بشكل خفي من خلال أعمال عدة قدمها، وربما في مشاهدة أخرى لفيلم "الحي الصيني" سنجد ذلك الارتباط الخفي، بل نراه أوضح في الفيلم الذي سبقه "ماذا؟ - What?" 1973م، ومع ذلك يجدر بنا ألا ننساق إلى هذا التأويل التآمري في استقراء أعمال "بولانسكي" فقد اتخذت أفلامه صوراً شتى ومواضيع مختلفة وفي أصناف متباينة، قبل وبعد الحصول على جائزة الأكاديمية الأمريكية التي ترشح لها مرتين وفاز بالثالثة في فئة أفضل مخرج عام 2003م عن فيلم "عازف البيانو – The Pianist". في فيلمه الأخير "فينوس في حلل الفراء – Venus in Fur" يقتبس بولانسكي من مسرحية "ديفيد أيفس" الذي اقتبس هو الآخر مسرحيته من رواية تحمل الاسم نفسه للنمساوي ليوبود فون زاخر مازوخ، والتي بسببها ظهر مصطلح المازوخية عطفاً على الرواية المحتشدة بالطقوس التي تصيغ الخيال الفني والرغبة في إثارة الألم في شكل جمالي، حيث برز المصطلح على يد طبيب الأعصاب ريتشارد فريهر فون كرافت إيبينج، وظل رائجاً حتى يومنا هذا، رغم كل المحاولات في ترقيع سمعة "مازوخ" وظهور مصطلح آخر يُستخدم اليوم في الدراسات الأكاديمية المعتبرة على يد الناقد والفيلسوف الفرنسي البارز جيل دولوز. جيل دولوز من خلال استخدام المنهج التحليلي ومحاولة الربط بين الأسماء كلها، "بولانسكي"، و"مازوخ"، ومن ثم "دولوز" يمكن خلق نسق يمكننا من استيعاب تجربة بولانسكي السينمائية ومن ثم النظر إلى عمله الأخير المقتبس عن سيرة ذاتية وصفت بأنها مكتوبة ببراعة سردية لا تخلو من المنغصات الأخلاقية والتساؤلات الاجتماعية والتحليل النفسي لجيل برز في وطأتها الأشد، إن استدعاء هذا الرابط في فيلمه الأخير، لا يلقي بالضوء فقط على تجربة "بولانسكي" الإخراجية ومجمل أعماله السينمائية، بل يوسع دائرة الضوء لتشمل تجربة مهرجان "كان" السينمائي، الذي افتتح السنة الماضية بفيلم مايكل هينيكيه "حب – Amour"، وحاز على جائزة السعفة الذهبية، وها هو فيلم "بولانسكي" يخوض الآن غمار السباق للفوز بنفس الجائزة للمرة الثانية في الدورة الساسة والستين للمهرجان الأكثر فنية بالعالم في مجال السينما، بالمنافسة مع عشرين فيلماً آخر، من ضمنها فيلم الإيراني أصغر فرهادي "الماضي – Le Passe"، "داخل ليفين دايفز – Inside Llewen Davis" للأخوين كوين، "شابة وجميلة – Jeune et Jolie" للفرنسي فرانسيس أوزون، "نبراسكا – Nebraska" للأمريكي ألكسندر باين، "Only God Forgives" للدانماركي نيكولاس ويندينغ ريفن، "درع القش – Wara no Tate" للياباني تاكاشي مايكي، "العشاق فقط يرحلون أحياء – Only Lovers Left Alive" للأمريكي جيم جارموش، "خلف الشمعدانات – Behind Candelabra" للأمريكي ستيفن سودربيرغ، "المهاجر – The Immigrant" للأمريكي جيمس غراي. إنها منافسة عالية المستوى، رغم كل ما يقال عن حظوظ فيلم فرهادي الأخير، وربما لاعتبارات فوز بولانسكي قبل عشرة أعوام مساحة لإعطاء الفرصة لغيره، على الرغم من أن "كان" لم يعودنا على هذه الاعتبارات سوى في سنوات قليلة خان فيها الحس الفني لجنة التحكيم مع القليل من التوجيه السياسي الذي جاء مدفوعاً باتجاهات يسارية تدعمها السينما الأوروبية ولا تخجل من التصريح بذلك. بالنسبة لنا كجمهور يعشق السينما ويحتفي بها، لا يدخل في اعتبارهم التسويق والإنتاج وشباك التذاكر وحسابات الانتشار الفرنسي والأوروبي لاحقاً ثم السوق الأمريكي الأكثر اتساعاً على الإطلاق، فإن مهرجان "كان" يعد فرصة سنوية للظفر بالأفلام المميزة من كل مكان، و"لكل سينماه – To Each His Own Cinema" حسب اسم الفيلم المميز الذي جمع 36 مخرجاً حول العالم لتقديم رؤاهم عن السينما في فيلم لا تزيد مدته عن الدقائق الثلاث، قدم فيها "بولانسكي" ما يعكس لنا حقيقة سينماه!.. حسناً.. حقيقة جزء منها.