"الشك".. يصنّفه النفسانيون ب"السرطان" الذي ينخر العلاقات ويفتت أوصالها.. هو حالة ضدية قاتلة، لا تستطيع أي علاقة سواء كانت حباً أو صداقة أو شراكة، أو حتى قرابة من الصمود أمامه، وقد يزرع نفسه بالعتمة، صانعاً سياجاً من سلاسل معقدة وقصص وهمية تحوّل حياة صاحبها إلى قلق دائم، فكل حركة هي رحلة التنقيب عن مكامن قصدها، ومحاولة الكشف عن مراميها، فلا تصبح النظرة مودة، ولا الكلمة اتصالاً، بل مصائد خانقة لتعزيز هيئة الظن السلبي، ومنحه القوة والصلابة. وعندما يتمكن "الشك" من أي علاقة أياً كانت فإنه يفقدها الروح والحيوية، وكذلك العوامل التي من شأنها تعزيزها ومراحل نموها، فتكون أشبه بتصيد الأخطاء وتحليلها ب"عداء مبطن"، فلا هو أصبح واضحاً ويتحدد منه موقف كل شخص، ولا هو منتهي فتمضي العلاقة إلى طريقها السليم، فمن ينخدع وينجر وراء "الشك" ينتهي به الأمر إلى الإدمان خلف علاقات ورؤى بعيدة جداًّ جداًّ عن الواقع. غياب التواصل وقال "أحمد عبدالوهاب": إن الشك متى ما تسرب إلى حياة الشخص أصبح من الصعب إعادة ثقتهم بمن حوله، خاصةً إذا دخل في مرحلة متقدمة في حياة الإنسان، بل ومن الممكن أن يشك في نفسه وبأفعاله، مضيفاً أنه قد يُفسِّر ويأول كل حركة أو تصرف حسب ما يراه هو، مما ينفر الآخرين منه، مشيراً إلى أن الشخص الذي يتصف بالشك يجد صعوبة كبيرة في التواصل الاجتماعي مع الناس، حتى أقرب الناس إليه في كثير من الحالات، مؤكداً على أن هذا التوجه في التفكير والسلوك والانفعالات يشمل كل الناس بدون استثناء، وإن كان نصيب البعض أكبر مثل الزوجة والأبناء والأقارب والزملاء. عدم الراحة وأوضحت "أروى حسين" أن مريض الشك المزمن لا يجلب سوى الشقاء وعدم الراحة، وهذه نتيجة طبيعية لتأرجح الفكر، وما نراه من تصرفاته من سوء نوايا وتبطينها وعدم إيضاحها للآخرين، مضيفةً أنه جعل من نفسه رقيباً على تصرفات الآخرين ومن ثم محاسبتهم عليها، مبينةً أن الشك يرجع إلى طبيعة الانسان نفسه وضيق أفقه الفكري والثقافي، إلى جانب تعميم الخطأ ومعاشرة "الشكّاكين"، مشيرةً إلى أن الشك يجعلنا نُطلق أحكاماً خاطئة أو ظالمة بحق الآخرين، وقد يكون المشكوك فيه صديقاً أو قريباً وقد يكون وللأسف أخاً. خبرات متراكمة وأكد "عبدالعزيز العلي" على أننا لو قدمنا كل أمر سلبي على الأمور الحسنة لأصبح التعامل بين الناس صعباً ولا يطاق، مضيفاً أن مريض الشك لا يثق بأحد، وتجده يبحث عن أي شيء لأجل التأكد من صحة شكه أو خطئه وقد يطول ذلك، وغالباً ما يكون مبنياً على خبرات سابقة متراكمة وأحداث وتجارب حوّلت بدورها الظن الحسن إلى ظن آخر إما أن يزول أو يبقى، لافتاً إلى أن عديد من الأسر تعاني ولاتزال من المشاكل التي تترتب على ضعف أو فقدان الثقة، ذاكراً أن البعض يكون الشك عنده مؤقتاً حتى يتم الوصول إلى الحقيقة فيما بعد، مما يجعل هاجس الخوف يلازمه حتى يثبت له عكس ذلك. د.أحمد الحريري مرض نفسي وقال "د.أحمد الحريري" - معالج نفسي وباحث في الشؤون النفسية والاجتماعية -: الشك وسوء الظن وتوقع الشر كل ذلك أعراض لمرض نفسي، أو دليل على بداية اضطراب في الشخصية، مضيفاً أن "جنون الارتياب" أو ما يسمى "جنون الاضطهاد" - كعرض نفسي - يكثر لدى المرضى "الذهانين"، فهم يشكُّون في من حولهم، ويشككون في نوايا من يريد مساعدتهم، لذا فهم دائماً محترزون ومتوترون، بل ويتوقعون أن هناك أناساً تسمع مكالماتهم الهاتفية، أو تراقب حركاتهم، أو أن هناك أجهزة تنصت مثبته على جدران بيوتهم، أو في سياراتهم، أو حتى أنها مركبة في أدمغتهم داخل رؤوسهم!، مشيراً إلى أنه تصل الحالة بهؤلاء المرضى إلى الهلاوس السمعية والبصرية، ورؤية الأشياء التي لا يراها إلاّ هم، وسماع أصوات لا أحد يسمعها، وقد يدخل في ذلك ما يسمى ب"ذهان الشيخوخة"، حيث يُشخّص لبعض المسنين بإصابتهم بالذهان، أو الفصام، مع أن التشخيص والحالة واردة جداً لمن هم في سن المراهقة والشباب. وأضاف أنه في المقابل لا ننسى اضطراب الشخصية الفصامية التي تشك في علاقات الآخرين بهم وأهدافهم ومساعيهم وألفاظهم، بل ويفسرون تعبيرات الآخرين وإيماءتهم العفوية على أنها مقاصد شر، أو نوايا سيئة، وخطط للايقاع والانتقام منهم، موضحاً أنهم يشكون ويبررون شكهم بالغيرة، ويحتاطون أكثر من الحد الطبيعي في التعامل مع الآخرين، ويفسرون تعاملهم بالاحتراز والفطنة، مشيراً إلى أن هناك بعض الاضطرابات النفسية كالاكتئاب والقلق تصل في حدتها إلى المرض العقلي؛ بسبب التأخر في التشخيص والعلاج، مشدداً على أهمية مراجعة المعالج النفسي في حال ملاحظة هذه الأعراض ولو بقدر بسيط، مؤكداً على أن العلاج في بداية الحالة أفضل من التأخر فيه. التفكير السلبي بالآخرين بداية أعراض المرض إرشاد وعلاج وقالت "لطيفة السلمان" - أخصائية نفسية في مستشفى الصحة النفسية بأبها -: إن الإنسان لا يجب أن يترك العنان لأحاسيسه، حيث أن الشك من الأمور التي تحوّل حياة الشخص إلى جحيم، وكثيراً ما يسقط بعضاً من سلوكياته وأفعاله على الآخرين، مبينةً أن هناك تصرفات غير مقصودة من البعض لكنها تزيد الشك، وإذا ضيق الإنسان الخناق على من يشك فيه أدى ذلك إلى نفوره وابتعاده، مشيرةً إلى أنه يختلف الشك باختلاف ذكاء الفرد ومزاجه وظروفه. وأضافت: لا يقتصر الشك على أفراد معينين، بل نجد بعض "الشكّاكين" من المتعلمين والحاصلين على درجات علمية عالية وفي مراكز مرموقة، مؤكدةً على أنه يتراوح بين الاهتمام النقدي العابر وبين الارتياب الحاد، وقد يحتاج الشخص إلى علاج نفسي وإرشاد سلوكي ومعرفي، وقد يحتاج إلى علاج دوائي، وقد يصل الأمر إلى علاج جراحي.