انطباعات الإنسان عن الآخرين، تؤثر على علاقته بهم، فالانطباع الجيد عن شخص يفتح بابا لمقاربته والتعامل معه، بينما يؤدي الانطباع السلبي إلى إيجاد مصدات وحواجز نفسية تقاوم نشوء الثقة، وربما تتطور إلى دافع للخلاف والعداوة. وتتشكل انطباعات الإنسان عن الآخرين من خلال ما يراه ويسمعه من مواقفهم وتصرفاتهم، غير أن كل ممارسة تصدر من أحد ما، تحتمل عادة أكثر من تفسير؛ فحتى الأعمال المصنفة ضمن الأعمال الصالحة، يمكن التشكيك في دوافعها، فتكون مصدراً لانطباعات سيئة. ولأن الإنسان لا يملك طريقة للجزم بنوايا غيره، ولا يعلم يقينا دوافع مواقفهم وتصرفاتهم، فإن الانطباعات التي تتقد داخل خلايا ذهنه عنهم تبقى محض ظنون وتوهمات؛ فالتفسير الإيجابي ينتج ظناً حسناً بينما التفسير السلبي يؤدي إلى العكس، وبالتالي فإن انطباعاتنا عن الآخرين تتراوح بين حسن الظن وسوئه، حسن الظن يمنح الإنسان فرصة للتواصل الإيجابي، وسوء الظن ينتج عنه نفور من الآخرين وارتياب نحوهم، وقد يكون مدخلا إلى العداوة. الارتياب يعنى الشك مع التهمة؛ يشك الإنسان في نوايا الآخر، ويتهمه في مقاصده. وهذا الشك يتكون في ثنايا نفس الإنسان، لأنه يعي بوجود النزعات الشريرة، ويعلم أن بعض المظاهر البراقة قد تخفي وراءها غايات غير سوية، وبالتالي فهو لا يستطيع أن يخدع نفسه وينظر إلى جميع الأمور والتصرفات ببراءة وثقة. وحتى لو قرر إنسان أن يكون بسيطاً ساذجاً يتعامل مع الجميع بثقة وأمانة، فإنه سيتعرض لمواقف «مؤلمة» من «بعض» من منحهم ثقته، تجعله يعيد النظر في ثقته المطلقة بالناس. ليس على الإنسان أن يكون ساذجاً مستعبدا نفسيا وفكريا، لأن ورود الخواطر والظنون على ذهن الإنسان ليس أمراً اختيارياً، فالجميع فيها سواء بسواء. لذلك ذهب بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى «يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن» إلى أن «المراد باجتناب الظن: اجتناب ما يترتب عليه من أثر من خلال ظنه غير السليم بأخيه المؤمن فيتهمه به»، وينقله إلى الآخرين، ويكون بمقتضاه سائر تصرفاته تجاهه. الخطر الحقيقي هو أن يصبح الشك وسوء الظن مسلكاً عاماً للإنسان، ويشكك في هذا وذاك وقد قيل «إياكم وقيل وقال وكثرة السؤال»! الشك والريبة قد تكون حالة مرضية يصاب بها البعض، فيفقد الثقة بمن حوله. إذا كان قلب الإنسان ساحة لمختلف الخواطر والظنون، فإنها سترد عليه راغما مرغما، متأثرة بالحالة الفكرية والنفسية والاجتماعية المحيطة به. ومن هذا المنطلق يمكن التنبيه إلى بعض العوامل التي يمكن أن تدفع الإنسان للاستغراق في الارتياب تجاه الآخرين، وتفقده توازنه في النظر إليهم وتفسير وتقويم أعمالهم وتصرفاتهم وسلوكياتهم، ومن أهمها: ضعف الوازع الديني، فالقلب المتعلق بالله سبحانه وتعالى، يستشعر حضوره ورقابته، فلا يختزن الظنون السيئة، حتى وإن خطرت له. كما أن مرآة الذات، والتي غالباً ما ينظر الإنسان للآخرين من خلالها، فإذا ما وجد نفسه يقوم ببعض الأعمال الصالحة بباعث نفعي، فإنه قد يفترض نفس الحالة في الآخرين. وتجد البيئة المهيأة المكونة من العناصر «المضطربة» نفسها معنية بتتبع العثرات أينما تصدر كي تبرر لذاته، وحتى تتوجه الأنظار إلى أخطاء غيرها. ويعتبر البعد عن الميل للمشاكسة مهما حيث أن الإنسان المهتم بكسب محبة الآخرين، يحرص على توفير فرص الانفتاح عليهم، لذلك يعود نفسه على التعاطي الإيجابي مع الآخرين، بدءاً من النظر إليهم، وتفسير أعمالهم ومواقفهم، عدا الحالات التي يتأكد من عدم صلاحها. ماذا يفعل الإنسان إذا ألح على قلبه ظن سلبي تجاه إنسان آخر؟ وكيف يستطيع أن يواجه ذلك الخاطر السيئ؟ ربما يصعب عليه تجاهل شك سيطر على ذهنه، وهو في ذات الوقت لا يرغب في الاستمرار مع مفاعيل سوء الظن. الوعي السليم والتفكير الموضوعي يفرض على الإنسان الانفتاح على الشخص المعني ومصارحته بما يدور في نفسه حوله؛ لإعطائه الفرصة لتوضيح موقفه، إن كان له مبرر، وتشجيعه على التراجع عن خطئه إن كان مخطئا. يقول المفكر الفرنسي روجيه ميل: «إنني لا أستطيع اجتناب الشك، ما دام كل إنسان يتميز، وأول ما يتميز بواقع أنه حامل سر لولاه لما تحلى بوجود صميمي إطلاقاً، وينجم عن أنني أنا نفسي مما يمكن أن يطاله الشك؛ ولذا فإنني لا أستطيع ألا أشك في الآخرين. فما السبيل إلى الخلاص من هذا الدرب المسدود؟ ليس ثمة غير سبيل واحد: سبيل الاعتراف للآخر بالشك الذي ينتابني بصدد قوله وعمله، وهذا الاعتراف بالشك يستطيع وحده إعادة الحوار ومنحه صحة وصدقاً.