من خلال قراءة ما يُكتب أو الاستماع للأحاديث التي تدور حول ساحة الشعر الشعبي يُلاحظ بأن أكثر قضية تُقلق المتابعين هي قضية تزايد أعداد الشعراء، وتزايد أعدادهم يتجلى أكثر ما يتجلى في الكم الكبير من الشعراء الذين نطالعهم في القنوات الشعرية أو الذين يحتشدون للمشاركة في كل مسابقة شعرية تُقام مهما كان المكان الذي تقام فيه، ويُعلل المتابعون قلقهم بأن زيادة عدد الشعراء مؤشر سلبي يدل على انحدار مستوى الشعر، وكثرة الشعراء وتدفق القصائد بشكل كبير في نظرهم أمر يُعمي عن رؤية وتمييز الجيد ويتسبب في تشويش يُعيق عن سماع الأصوات الجميلة التي تضيع في زحمة الأصوات الشاذة والقبيحة. ورغم أن تلك الكتابات والأحاديث تحمل شيئاً من الوجاهة إلا أن الحقيقة التي يجهلها البعض وسبق أن أشرت إليها وأحب أن أُؤكد عليها مرة أخرى هي أن الشعراء لم يكونوا قلة في أي عصر من عصور الشعر العربي ولم تكن عملية كتابة القصيدة بتعريفها البسيط: "كلام موزون مُقفّى دالٌ على معنى" أمراً يُشكل أي صعوبة بالنسبة للإنسان العربي، وفي كتابات الشاعر الكبير نزار قباني رحمه الله النثرية الكثير من الإشارات الرائعة التي يتحدث فيها بإعجاب شديد عن العرب كأمة شاعرة يشترك أفرادها في نظم الشعر وعشقه، ففي كتابه (قصتي مع الشعر) يقول: "أنا من أُمة تتنفس الشعر، وتتمشّط به، وترتديه، كلُ الأطفال عندنا يولدون وفي حليبهم دسم الشعر. وكل شباب بلادي يكتبون رسائل حبهم الأولى شعراً، وكل الأموات في وطني ينامون تحت رخامة عليها بيتان من الشعر؛ أن يكون الإنسان شاعراً في الوطن العربي ليس معجزة، بل المعجزة ألا يكون"، وأعتقد أن نزار وإن بدا شاعرياً وحلّق به الإعجاب بشعرية العرب عالياً إلا أنه يُلامس حقيقة مُلاحظة وهي أن عشق العرب للشعر يجعل منهم إما شعراءً أو عُشاقاً متذوقين للشعر. وإذا ما عُدنا للتعريف السابق لوجدنا بأنه هو أساس الإشكالية وهو ما يُدخل كثير من الناس تحت تصنيف الشعراء بمجرد إقامة الوزن والقافية وهم ليسوا بشعراء، ومن الطريف أن الجاحظ قد أشار في (البيان والتبيين) إلى أن مسألة الإتيان بكلام موزون مسألة سهلة قد يُحسنها أي شخص، يقول الجاحظ: "اعلم أنّك لو اعترضتَ أحاديث الناس وخطبهم ورسائلهم لوجدتَ فيها مثل مستفعِلن مستفعِلن كثيراً، ومستفعلُن مفاعلُن، وليس أحدٌ في الأرض يجعلُ ذلك المقدار شعراً. ولو أنّ رجُلاً من الباعة صاح: مَن يشتري الباذنجان؟ لقد كان تكلّم بكلامٍ على وزن مستفعلن مفعولات، وكيف يكون هذا شعراً وصاحبه لم يقصِد إلى الشعر؟ ومثلُ هذا المقدار من الوزن قد يتهيأ في جميع الكلام"..! كلام الجاحظ حول مسألة الوزن وسهولتها جميل جداً وشديد الوضوح، لكن لا أظنه يستطيع إقناع الكثير ممن تملأ منظوماتهم الصفحات والمنتديات الشعرية ويحتشدون أمام لجان المسابقات بأن كتاباتهم ما هي إلا كلامٌ موزون مُقفى يستطيع مُحاكاته أي بائع باذنجان..! أخيراً يقول سيف السيف: ما زلت أولع شمع في يوم ذكراك واعيش فيه الهم والغبن والكبت ولا قد طراله هاجس العشق ينساك يحيا على الذكرى من السبت ل السبت وأنا بعد عايش على جرح فرقاك أبطى وأنا من لوعة الجرح ما طبت وطال الغياب وهم قلبي مناجاك ما اقنعني الواقع وأنا منك ما تبت