هل يرشح الإبداع من فسوخ الأمكنة القديمة، ومن قران الشمس بالتراب والحجارة، ما يصنع التماثيل والأنصاب والمعابد، ويصنع الأفكار والأساطير الشعبيّة أيضاً، أم ثمّة ما ينبغي أن يضاف الى هذه الكيمياء القديمة، في «الأقصر» جنوبي مصر، حيث نشأت حضارة «طيبة» القديمة، فامتدّ مجدها بعيداً في المكان والزمان؟ معبد الكرنك الذي بناه الفراعنة لعبادة آمون إله الشمس، ألهم الشاعر في هذا العصر بالذات قصيدته، فغنّى بها المغنّي، وكأن الزمان سلك يمتدّ من عمق هذا الصعيد المصري الساحر، ليصل إلينا بلغة التماثيل والمعابد والأنصاب، والعادات والأشعار والأصوات... وكأنّ «النيل» لسان يربط أوّل الأبديّة بأواخرها... كل هذا وأكثر تقدمه لك الإقامة في «الأقصر»، حتّى ولو كانت لأيام، وهي أيام قضيناها هناك في مهرجان «طيبة» الثقافي العالمي الثاني، حيث عشنا في ذاك المناخ الساحر من عبق الماضي وتنفسّه في الحاضر، ومن قدرة المصريين في تلك المنطقة على أن تتواصل فيهم الأساطير القديمة والعادات والطقوس، وأن يلتقط إشاراتها قصاصون وشعراء ورسامون كثر. وهكذا تنشأ طقوس للفنّ الجنوبي، من يحيى الطاهر عبدالله الى بهاء طاهر في القصة والرواية، ومن أمل دنقل وعبدالرحمن الأبنودي الى أحمد فؤاد جويلي وعزت الطيري في الشعر... وإلى سواهم آخرين ممّن يعبق بهم هذا الصعيد المصري الخصب. الكتاب الذي بين يديّ ديوان شعر بعنوان «كتاب المحو». وهو الإصدار الأول للمجلس الأعلى للأقصر في سلسلة كتاب «طيبة» 2009. صاحب الديوان أحمد فؤاد جويلي، شاعر في شعره النفس الطويل للنيل، وظلال من خواتيم الحروب وخواتيم الزمان وكأنها ظلال المعابد والأنصاب، الظلال المتغيّرة على أرض ثابتة. الطائرة التي نقلتنا من مطار القاهرة الى مطار الأقصر، قدّمت لنا عند الفجر هدية المكان والشمس التي تخترق الغيوم في أوّل الصباح. المشهد كان ساحراً لدرجة يمكن فيها الإنسان أن يجد ما يفسّر عبادة المصريين القدماء لآمون إله الشمس. فتلك الشمس البكر عند الفجر فوق الغيوم وبينها، وفوق «الأقصر» شمس لا تُنسى. لكننا ندخل الى ديوان أحمد جويلي من باب آخر ليس بداية هو باب الإثبات بل باب المحو. فإلى أين نسير؟ وأي المحجّات يقصد الشاعر حيث ينشر كتاب محوه على جسد الكلام، ويخاطب المحو كموت، وينسحق مع اللغة، وينكسر مع السيوف؟ الجواب الأول أن شيئاً ما من الخوف هو الذي خرّب جلال المكان واتساق الأسطورة في رأس الشاعر، فنظر الى الأمّة على أنها «باتت كمخطوطٍ عتيق» (على قوله في القصيدة الأولى من الديوان)، وإنها خرجت من الأبجدّيات القديمة الى «أبجديات النعام». لذا فهو يتنصل من البلاغة (بما هي إشارة رمزية للقديم) ويتنصّل من تهجّي الأقدمين، ويشير الى علاقة ما تصل اللغة بالحواسّ الخمس. لذا فهو حين يمارس المحو على جسد الكتابة، يسعى الى كتابة أخرى ليفتح كتاباً للقيامة، وهو كتاب بحروف جديدة حيث تمتدّ مساحات بيضاء في الياء، ويكتظّ الحبر في النون العظيمة، فتتقوّس فوقها الصحراء، ويكحّلها البحر الكبير، وحيث الروح تعود للتحرك بين الحروف العمياء... كأنّ الشاعر في صدد إعادة تعريف للأبجديّة: «ها أنتَ مرئياً/ تردّ دلالة الأسماء للأشياء/ تعرف أننا ننسلّ من فلكٍ الى فلكٍ ومن نورٍ الى حلكٍ ومن بعثٍ الى هلكٍ ومن صحوٍ الى موتٍ الى موتِ القرار الى الغياب»... في هذه القيامة المقترحة أو المرجوّة للغة، ما يفترض قيامة مقترحة ومرجوّة للإنسان وللوقت. وما بين اللغة في قيامتها والزمن في قيامته، ترتسم صورة الإنسان القادم. كيف؟ «الآن وقتك أنت وقتُك أنت والأسماء/ فامسك بقوسٍ في انثناء النون أو وترٍ من الأفق المؤجّج بالبهاء»... القصيدة الأولى وهي مكتوبة بين القاهرةوالأقصر، تعيد الى أذهاننا الإحساس بعصب متوتّر، على اختلاف الأسلوب، بل بعصب جارح وملتهب لدى شعراء الجنوب المصري أمل دنقل والأبنودي. فأمل دنقل في مرثية جديدة على قبر صلاح الدين، لا يستحضر البطولات لكي يلوذ بها كمسكين أو كشحّاذ معاصر للبطولة القديمة، بل هو يسحبها من أعلى صهوتها لكي يحوّلها الى كاريكاتور بين يدي عصر مهزوم. إنه يخاطب صلاح الدين بتشبيهه بالطبل وبقارب الفلّين. وهذا هو ابتكار أو مجد أمل دنقل في شعر الغضب ونقد الهزيمة. أنشب في جسدها مخلبه كسرطان، وسرّب اليها سُمّ الشعر الشافي. جويلي يضرب على وتر آخر وإن كان اللحن متشابهاً. جويلي غنائي، في شعره خيوط لعب على اللغة... دنقل فأس قاطعة ومخيفة وشعره تدميري، في حين أنّ المحو لدى أحمد جويلي، يرمي الى الاستبدال، والاستبدال مشبوك بتوليد لغوي ما بين جناس وطباق وانتباه لعلاقات بلاغيّة قديمة يظهر أحياناً قادراً على الإمساك بها واللعب على مؤثراتها الصوتية. يقول: «لا ملك إلاّ الفلك فاصعد للقيامة/ لا فلك إلا الملك فاملكْ تابعيك» (القصيدة الأولى). وهذا النهج التعبيري يزداد تطامناً في قصائد القسم المسمّى «سلك طويل شائك»، فإذا كانت القصيدة الأولى تشبه بحراً متمادياً ومتدافعاً على تفعيلة «مستفعلن»، فإن قصيدة «كوكبان» هادئة تأملية على «مفاعلن»: «أرى اتجاه ما يُخطُّ في السطور يأتلفْ/ وما يُخطّ في الصدور يختلف/ وبين كوكب الجنوب حيث تسحق المجاعة العيون والجلود والنُطَفْ/ وكوكبِ الشمالِ حيث يقنص الجليد نار زهرةٍ تشِفّ/ أرى كتابتين فوق رمل شاطئين من خَزَف». القصيدة هذه نموذج للبناء الإيقاعي والتعبيري وجوهر المعنى للشاعر. فهنا نصّ موزون ومتوازن في وقت واحد. ليس فيه خروج على وحدة التفعيلة، بل اتساق لأمواجها الهادئة المتحركة بهدوء، والموقعة بقوافٍ موحّدة. والتوازنات التي تستند اليها قائمة بين الجناس والطباق: الصدور - السطور، يأتلف - يختلف، كوكب الجنوب - كوكب الشمال... ما يجعل البناء الشعري بناءًَ هندسياً متوازياً ومتوازناً، من خلال لغةٍ ليس فيها تعب أو افتعال. في قصيدة «حيلة» ومن بعدها قصيدة «أمنح قدميَّ السير طويلاً» تُشَمّ روائح الأمل كما تفتح كوّة في ليلٍ حالك: «لا بُدّ من بيتٍ بلا بابٍ على الصحراء» أو: «كما ثمّة انفتاح على البريّة... أو الحريّة». يضغط على قصيدة أحمد فؤاد جويلي، في مواقع متباينة من الديوان، ما رسم لهذه البلاد من مصائر سياسية. وهو حين يبتعد عن الإشارة والرمز والتجريد، من خلال لجوئه الى اللغة والحروف والعوالم المتباينة، المختلفة والمؤتلفة، فإنه يصل الى منطقة التسمية: تسمية الأشياء والوقائع والمناطق والأشخاص، بأسمائها. وهي مسألة يواجه فيها الشاعر اشكالية شعريّة مفادها خطر الوقوع في خطابية النص وسياسيته الواضحة وكأنه بيان. هذه الاشكالية وقع فيها كثير من الشعراء العرب المحدثين والمعاصرين. فكان الهروب الى الرمز أو الأسطورة أو استعارة التراث أو استعادته في أشكال مختلفة. فحين ضرب أمل دنقل ضرباته العنيفة في الهزيمة، لم يسمّ الأشياء بأسمائها المباشرة والمعاصرة، بل استعار من التاريخ العربي حكاياته وأساطيره وأسقطها على الواقع، كما جاء في قصيدة «لا تصالح» وقصيدة «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» وقصيدة «مرثية جديدة على قبر صلاح الدين». وحين ذهب الشعراء مباشرةً الى الواقع وسمّوه بأسمائه، لم يمنعوا القصيدة من أن ترتبط بذيله ويخبو ألقها ووهجها بتغيره. ولعلّ الواقع كان أحياناً أشدّ بلاغةً وأكثر دلالةً من القصيدة. في مجموعة «كتاب المحو» لأحمد فؤاد جويلي بعض مناطق حرجة للقصيدة، هي تلك التي تجد نفسها مضطرة للسرد السياسي ونقل الواقع بما هو، بتسمياته وأوصافه وأوقاته. فهو يقول على سبيل المثل في قصيدة بعنوان «الغرفة الأخيرة» يصف فيها أحوال العراق بعد الاحتلال: «ثم أوصى المذيع الداخليّ للبناية جميع السكان بالاختفاء أو الهروب من الدمار الذي لم يوقفه شيء./ في غرفة الثريا/ رموا من النوافذ الحلى والقلائد/ وكنزنا الوراثيّ:/1 - وثائق انهزام كسرى/ 2 - سيوف غزوة اليمامة/ 3 - عمائم الخلافة/ 4 - معلقاتنا على ستائر الملوك/ 5 - الكتب الصحاح في الحديث/ 6 - وكأن غداً عليه آيتان من نزوحِ عاد/ 7 - ولوحة الشتاتِ تحت سقف بابل/ تناثر الحطام في الممر والخزف/ تساقط النجف/ على رخام ردهة فسيحة». يلاحظ في هذا النص استخدام الشاعر للسرد والترقيم والوصف المباشر والتعداد الشيئي. وهو في السطرين الأولين منه على غير وزن، أي أنه نصّ نثري مرسل بلا وزن، ولكنّ الشاعر يعود فينظم ما تبقّى بما في ذلك الجمل المرقمة، في لباس التفعيلة، فجملة «وثائق انهزام كسرى» مثلها مثل جملة «عمائم الخلافة» وسواها، موزونة على أساس «مفاعلن»، لكنّ الوزن لم يكسبها شعريّة خاصة بها، فهي سرد وتعداد. وفي هذه القصيدة بالذات المسماة «الغرفة الأخيرة» وهي القصيدة الأخيرة في الديوان، يحاول الشاعر الخروج من سياقه الغنائي والرمزي في اتجاه سرديّة نثريّة، يستعمل فيها، بالإضافة الى ما ذكرنا من تعداد وجُمَل مرسلة، عبارات بالانكليزيّة مثل: «نهاية البناية Oriental Restaurant» تناولوا طعامهم من ال Open Buffet وهذا التجريب أدخل الشاعر في فلك آخر غير الفَلَك الذي كان يحلّق فيه، أو يسيّر فيه دفة القصيدة. لكن يبدو أنه لم يقطع حبال التواصل مع إيقاعية كتابته الشعريّة، فهي حتى في هذه الكتابة المختلطة، موزونة «نهاية البناية» و «تناولوا طعامهم من ال...». وهذه اللعبة استعملها قبله سعدي يوسف وآخرون، ولا أعتقد أن أحمد فؤاد جويلي مزمع على السير في المغامرة الى آخرها، فهو لا يلبث، في القصيدة نفسها، أن يلبس صورته وإشارته ورمزه الأول كأن يقول: «... غزالة تفرّ من خيوط رسمها الجميلِ/ يصعد النخيل حولها/ ويصعد اللهيبُ في النخيل».