وأستمر في قراءتي، فأقرأ في مجلة الأمن العام، في عددها الثامن الصادر في شهر شوال سنة 1426ه، وهي مجلة فصلية أنيقة، ذات ورق صقيل، وإخراج منمّق، وموضوعاتها شائقة، تحمل مقالاتها علْماً نافعاً، وفوائد جمّة.. ولكنَّ الجميل لا يخلو مما يكدّر جماله.. وقد كدَّرني نشر قصيدة للأستاذ فيصل النشار (مدرس اللغة العربية)، وهو لقب وظيفي، أراد أن يجعله علَماً له وسمة، ونسي (عفا الله عنه): أن الجار أحق بصقَبه، والمرء أحق بلقبه، فهل هو قمينٌ بهذا اللقب، أو بهذا الصقَب.. قرأت قصيدته: «إلى كل رجل أمن في وطني»، التي بدأها بقوله: تقدَّموا تقدَّموا بقوة كالحُممِ وسطّروا للأمْنِ خيرَ مَعْلمِ والقصيدة من البحر الرجَز، وقد سُمّي هذا البحر بالرجز، لأنه مأخوذ من قولهم:- ناقة رجْزاء إذا ارتعشتْ عند قيامها، لضعف يلحقها، أو داء يصيب عجزها، فإذا ثارت ارتعدتْ فخذاها ساعةً ثم انبسطتا.. فلما كان هذا اللون من الشعر ضعيفاً بسبب قلة حروفه، سُمّي بالرجز، والشائع في هذا البحر:- أربع أعاريض، وخمسة أضرب، فأبياته خمسة: العروض الأولى:- «مستفْعلنْ» صحيحة، ولها ضربان:- الضرب الأول:- صحيح مثلها «مستفْعلنْ» وشاهده:- دارٌ لسلمى إذ سليمى جارةٌ قفْرا تُرى آياتُها مثل الزبُرْ وتقطيعه: العروض: «مى جارتنْ» ووزنها: «مستفْعلنْ» والضرب مثلها «مثل زْزُبرْ» ووزنه «مستفْعلنْ» الضرب الثاني: مقطوع «مستفعلْ» وينقل إلى «مفْعولنْ» وشاهده: القلبُ منها مستريحٌ سالمٌ والقلبُ منّي جاهدٌ مجْهودُ وتقطيعه: العروض: «حنْ سالمنْ» ووزنها «مستفْعلنْ» والضرب «مجْهودُو»، ووزنه «مفْعولنْ»، ولو جاء البيت من هذا الضرب مصرّعاً، لاشتبه بسادس البحر السريع المشطور المكشوف الضرب، الذي يأتي على وزن: مستفْعلنْ/ مستفْعلنْ/ مفْعولنْ وقصيدة شاعرنا (فيصل النشار) من البحر الرجَز، ذي العروض الأولى صحيحة، والضرب مثلها صحيح.. يبدأ «فيصل النشار» قصيدته بقوله: تقدّموا تقدّموا بقوّةٍ كالحُممِ وسطّروا للأمْنِ خيْرَ مَعْلمِ ونحذف من الشطر الأول كلمة (تقدموا) الثانية، حتى يستقيم وزن البيت، ونكتبه هكذا: تقدّموا بقوَّة كالحُممِ وسطّروا للأمْنِ خيْرَ مَعْلمِ ونقطعه: فيستقيم وزن البيت، ويدخل الطي عروضه، فتصير «مستفْعلنْ» «مفْتعلنْ» كما يدخل الخبن ضربه، فتصير «مستفْعلنْ» «مفاعِلنْ» وهذان الزحافان مع زحاف «الخبْل» تجوز في كل أجزاء بيت الرجز، حشوه وعروضه وضربه.. إلا الضرب المقطوع «مفْعولنْ» فإنه لا يجوز فيه إلا الخبن فقط، ويسمى حينئذ: مكْبولاً أو مخلَّعاً، وهذه الزحافات في الرجز، لا تنبو عن الذوق، وترتاح لها أذن السامع. ويخطئ الشاعر النشار في البيت الثاني من قصيدته: وجاء الخطأ العروضي في الشطر الثاني من البيت: «تقدموا، حيث تكوّن الشطر من أربع تفاعيل: «مفاعلنْ/ مفاعلنْ/مفاعلنْ/ مفُتعلنْ» وهذا لا يجوز حدوثه في البحر الرجز.. ثم تنهال أبيات قصيدته المكسورة على رأس الخليل بن أحمد (رحمه الله) فيتأذّى منها تلامذته وأحباؤه.. واقرءوا معي بعض هذه الأبيات المكسورة : «تقدموا فالمارد أضحى ظالماً» و«صاغوا لنا كل الدمار واليتم»، ويستقيم هذا الشطر إذا كتبناه هكذا: «صاغوا لنا كلَّ الدمار واليتُمْ» فحرّكنا التاء بالضمة وسكنّا الميم في كلمة (اليتُمْ) مع أن قصيدته جاءت قوافيها مكسورة، وجاء مكسوراً من أبياته البيت: «ما أعظم الحب كالحب المضرم» ولا أعرف معنى:الحب المضرم . و«تقدموا فلم يعد لهم مقام» و«لواؤكم خفّاق دوماً كالعلم» و«احرصوا مجداً لنا معظّمِ» ولم أفهم ماذا يريد بهذا الشطر من معنى. وهل كلمة «معظّم» مجرورة أو مرفوعة أو منصوبة، والصحيح أنها منصوبة لأنها صفة لمجد.. وأما واحرصوا مجداً لنا، وهو يريد أن يقول: واحْرصوا على مجدٍ لنا، وحَرَص على الشيء اشتدت رغبته، وفي التنزيل العزيز: {لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتم حريصٌ عليكم} ففعل (حَرَصَ) بفتح الراء لا يتعدَّى إلا بحرف الجر «على».. والبحر الرجز، من أقدم الأوزان، وهو أحد البحور الأربعة في دائرته المجتلب، وأصله في الدائرة (مستفْعلنْ) تكرَّر ست مرات، ويتفق العروضيون أن له أربع أعاريض، وخمسة أضرب، إلا ابن القطَّاع: علي بن جعفر «رحمه الله» المتوفى سنة 515 ه، الذي خالف العروضيين، وعدَّ له عروضين فقط، بناءً على أصله، وهو أن المشطور والمنهوك، لا عروض لهما.. وقد استحدث المولدون أنواعاً عديدة من البحر الرجز، وتوسعوا فيه لسهولته وعذوبته، كما جاء في حاشية الدمنهوري «الحاشية الكبرى على متن الكافي» ص53. ويأتي كلام العرب أحياناً على وزن الرجز، ويأتي عفواً وسليقة، جاء هذا على لسان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم حين قال، في يوم حُنينْ: (أنا النبي لا كذبْ أنا ابْنُ عبدالمطلبْ) فلما أصيب إصبعه بجرح قال: (هل أنتِ إلاَّ إصبْعٌ دُميتِ وفي سبيل الله ما لقيتِ) ويقول السيد توفيق البكري، في كتابه «أراجيز العرب»: (كان الرجز ديوان العرب في الجاهلية والإسلام، وكتاب لسانهم، وخزانة أنسابهم وأحسابهم، ومعدن فصاحتهم، وموطن الغريب من كلامهم، ولذلك حرص عليه الأئمة من السلف، واعتنوا به حفظاً وتدويناً، قيل إن الأصمعي كان يحفظ ألف أرجوزة، وقيل مثل ذلك عن أبي تمام وغيره).. انتهى ما قاله البكري. والنبي عليه الصلاة والسلام كان منزّهاً عن قول الشعر، يقول الله عزَّ وجلّ: {وما علّمناه الشعر وما ينبغي له} سورة يس آية 37. وسُمع أيضاً قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، عندما رأى المسلمين يحفرون الخندق، وهم في أسوأ حال، وهو يقول: لاهُمَّ إنَّ العيشَ عيشُ الآخرهْ فارْض عن الأنّصارِ والمهاجرهْ وقد تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا القول، وهو لم يقصد عليه الصلاة والسلام إلا النثر. وقد ذهب الأخفش إلى أن المنهوك من الرجز ليس بشعر، وخالفه في هذا القول، الخليل بن أحمد.. والمنهوكة هي العروض الرابعة لهذا البحر الرجز، وبيته قول دُريْد بن الصمّة الجشمي: ياليتني فيها جَذعْ أخُبُّ فيها وأضَعْ أقودُ وطْفاءَ الزمَعْ كأنني شاةٌ صَدعْ والعروض المنهوكة قليلة جداً فيما روي لنا من أراجيز، وقد شجعت سهولة الرجز علماءنا في العروض والنحو والفرائض، وبعض العلوم الأخرى، أن ينظموا به قواعد علومهم. ومن وصايا العرب المعروفة: روّوا أبناءكم الرجز، فإنه يهرِّت - بتشديد الراء - أشداقهم، ولم تكن العرب في الجاهلية تطيل الأراجيز، وإنما أطالها المخضرمون والإسلاميون.. وقد أطال شعراء العصر الأموي قصائد الرجز، مثل ذي الرمّة والعجّاج وابنه رؤبة، وأبي النجم العِجْلي، وأجادوا الرجز وكتبوه في المدح والفخر والغزل والهجاء. وكان الشعراء الرَجَّاز، يقولون الرجز في كل ما يعرض لهم من مناسبات في حياتهم، حتى قال عنه الباقلاّني في كتابه «إعجاز القرآن» ص58: «فأما الرجز فإنه يأتي في كلام العوام كثيراً». وللرجز عروض ثالثة، وهي مشطورة صحيحة «مستفْعلنْ» وهي الضرب، وشاهده: ما هاج أحْزاناً وشجْواً قد شجَا العروض والضرب: «وَنْ قدْ شجا» والوزن «مسْتفْعلنْ» وللعروض المشطورة الصحيحة نوع آخر، تسمَّى العروض المقطوعة «مفْعولنْ»، وضرب مثلها مقطوع «مفْعولنْ» على وزن: مستفْعلنْ/ مستفْعلنْ/ مفْعولنْ - مستفْعلنْ/ مستفْعلنْ/ مفْعولنْ ويدخل الخبن هذا الضرب «مفْعولنْ» فيصير «فَعولنْ» كقول الشاعر: لأطرقنَّ حِصْنهمْ صَباحاً وأبْركنَّ مبْرك النعامهْ ويلتزم الشاعر الخبن مع القطع، فتأتي العروض والضرب على وزن «فعولنْ»، إلاَّ أن العروضيين يعدّونه من البحر المنسرح، ويخالفهم الإمام إسماعيل الجوهري المتوفَى سنة 393 ه، الذي عدّه من البحر الرجز... وقد جاء هذا النوع «المقطوع» في شعر بشّار بن بُرد، حيث يقول: صدَّتْ بخد وجلتْ عن خدِّ ثم انثنتْ كالنفَس - المرتدِّ عهّدي بها سَقْياً له من عَهْدِ تخلفُ وعْداً وتفي بوَعْدِ ووزن هذه الأبيات: «مستفْعلنْ/ مستفْعلنْ/ مفْعولنْ» ويدخل ضربها (الخبْن) فيصبح (فَعولنْ).. وقد اختلف العروضيون في العروض المنهوكة ولهم فيها آراء، لا داعي لذكرها، لأني رأيت الشعراء قديماً وحديثاً لا يأتون بالعروض المنهوكة إلا نادراً. وأما ما جاء على جزء واحد، نحو: (مستفْعلنْ)، فالخليل والأخفش قد اتفقا (رحمهما الله) على أنه ليس بشعر. وأما أبو إسحاق الزجّاج، فقد ذهب إلى أنه شعر. وقد جاء من هذا اللون كثير، كقول الشاعر، سلْم الخاسر: موسى مطَرْ، غيثٌ بكَرْ، يُحيي البشرْ وكقول بعضهم: بين الخيمْ، ظبيٌ ظلمْ، لمّا حكَمْ، ولّى ولَمْ، يشْفي السقَمْ وأخيراً أوجّه رجائي إلى الأستاذ الدكتور عبدالرحمن بن إبراهيم الجمّاز، مستشار وزير الداخلية، ومعالي الأستاذ الدكتور ساعد العرابي الحارثي، مستشار وزير الداخلية، وسعادة اللواء سعود بن صالح الداود، مدير عام الدراسات والبحوث بوزارة الداخلية، وهم من تلامذتي النجباء، ولهم باع طويل في اللغة العربية: أسلوبها ونهجها.. أوجه رجائي لهم أن يختاروا لهذه المجلة الراقية محرراً قديراً، حتى لا نرى الشعر الرديء على صفحاتها، ولا نرى المقرزمين من الشعراء العرب بعامة، والسعوديين بخاصة، يرموننا بغثّهم، وهم يعتقدون بصحة وزن شعرهم وسلامته من الأخطاء العروضية واللغوية والنحوية.. والشاعر القرْزام ليس لشعره مكان في هذه المجلة الراقية، لأنّ مكانَ شعره في سلة المهملات.