عالم المسنين" فضاء رحب مليء بالقصص والعبر، وخلف أسواره تقبع فئات من الناس آثرت العزلة والانزواء بعيداً عن تلصصات الآخرين بعد أن ضاق بهم محيطهم الخارجي من أسرة ومجتمع مخلفَّين وراءهم علامات استفهام وحكاياتٍ وقصصاً مريرة. "الرياض " دخلت إلى عالمهم والتقت بعضاً منهم واستنطقت جروحهم ففاضت ألسنتهم بمرارات ومواقف تنضح بالتجارب والخبرات ومشاهد إنسانية تطالعوها في هذا التقرير حيث رصدنا كيف يقضون عيدهم فيقول أحدهم " تمنيت أن أجلس عند أحد أبنائي وأقيم عنده بدلا من إقامتي في هذه الدار الكبيرة لوحدي "، هكذا بدأ حديثه العم محمد الذي هجره أولاده والذي كان يدعو على أبنائه دعاء يقشعر منه البدن، ويقول : من المؤلم جداً أن تفقد بر أبنائك الذين أفنيت عمرك في حبهم وخدمتهم وهم أحياء أمام ناظريك يثني عليهم بعض الناس المستفيدين منهم وهم لايعلمون عقوقهم لي، بل والله قد يمر العام تلو العام وأكبر أبنائي الذي يسكن في مدينة لا تبعد عن الرياض 500 كلم، لا يتصل بي ولا يسأل عني. وعن يوم العيد يقول العم محمد الذي شارف على السبعين : والله لولا شرع الله وحكمته سبحانه لقلت انه أشد أيامي حزناً وكآبة ، فكل الناس تفرح بهذا اليوم الذي يكثر ويزدان فيه التواصل والتقارب بين الأقارب والأرحام والجيران والأصدقاء، أما أنا - وهنا يجهش العم محمد بالبكاء- ويتمتم بصوت لا أكاد أسمعه " لي الله هو رفيق وحدتي وأنيس وحشتي". قصص المسنين متشابهة تفوح منها رائحة نتن العقوق رغم اعتراف بعضهم بأنه هو السبب في جفوة أبنائه لأنه كان قاسياً معهم وحرمهم الحنان والعطف حينما كانوا بأمس الحاجة إليه ، يروى لنا العم عواد "71" سنة، قصته مع العيد وكيف أصبح اليوم المؤلم بالنسبة له بعد أن كان أسعد أيامه حيث قال : كان عيدنا اجتماع وسعادة وذكرى هي الأجمل ولكن اليوم العيد بالنسبة لي "يوم اليتيم"، ويستطرد العم عواد ويقول: أعلم أني لم أكن محبوبا من أبنائي ويكرهون إقامتي معهم وذلك لأني لم أعاملهم كأب في الوقت الذي كانوا محتاجين فيه إلى الحنان والعطف من الأب، بل لم يمض يوم إلا ودعوت على أحدهم بالمرض أو الموت، كما لم أوفر لهم المعيشة التي تناسب دخلي العالي وكنت بخيلاً وكأني لا أجد قوت يومي، الحقيقة ياولدي أنا لا أنتظر منهم أكثر من أنهم أكرموني ووفروا لي مكان إقامة مناسب مع أقران لهم نفس ظروفي أو ما يشابهها ويجيئون لزيارتي في الأسبوع مرة أو مرتين ويقضون ثالث أيام العيد معي بدون اصطحاب أبنائهم معهم لرؤيتي وهم معذورون فقد اعتادوا أني أتلفظ بكلمات تهينهم أمام الآخرين". آباء يدعون لمساندة المؤسسات الخيرية في رعاية الكبار ويحثون الجيل على«البر» من جهته يقول جهز الضبعان لو تأملنا قليلا في الآية الكريمة(وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً) لعرفنا معناها حرفاً حرفاً ولكن من يعتبر ؟ كثير منا يقرأ ويشاهد في السنوات الأخيرة كثيراً من العقوق للوالدين ،فمنهم من يضعهم في دار للعجزة إرضاء لزوجته أو ترضي هي زوجها، وكثيرون قد يهمل والديه حتى يموتوا من قهرهم على ما أصابهم من أولادهم، والبعض يعامل أهله بقسوة ودون رحمة. وزاد الضبعان الذي بلغ الخمسين من عمره ويقول "الحمد لله " أولادي بارين بي ولكن أعرف أحد الأقارب وقد تجاوز السبعين تذوق المر من عقوق أبنائه الثلاثة، هل تصدق أني قابلت أحدهم خارج الرياض وسألني عن إخواني وأولادي وعن أحوالهم ولم يكلف نفسه السؤال عن أبيه..!! ، اليوم العيد وهو كما تعلم من الأيام المباركة وهو فرصة للصلة والبر والتسامح، إلا أن أبناء هذا الرجل لم يكلفوا أنفسهم حتى الاتصال بوالدهم، وأصبح عيد المسن "لاطعم ولا رائحة" بل هم وحزن . ويمضي الضبعان في حديثه ويقول أين الشباب من هذا الحديث :ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهنَّ: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده"، فكل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين، فإنه يعجل لصاحبه في الحياة قبل الممات، في الماضي كنا نرى احترام وبر الوالدين والتعامل معهما بأسلوب محترم وراقٍ، وكان العقوق يعتبر شاذاً أما اليوم نسمع ونقرأ عن كثرة قصص العقوق وبشكل عادي إلا من رحم الله. من جهته ينقل ناصر محمد العويضة لنا تفاصيل قصة زيارته لإحدى دور رعاية المسنين خارج منطقة الرياض في أول أيام عيد الأضحى المبارك ويقول : من أجمل الأعمال التي تشعرني بالسعادة وراحة البال والطمأنينة هي زيارة كبار السن والجلوس معهم سواء كانوا في دور للعجزة او في منازلهم ، في الأمس ذهبت لإحدى الدور فوجدت عددا من المسنين ممن زرتهم في عيد الفطر صافحت الجميع وقبلت رؤوسهم ووجدت احد الآباء كنت قد زرته في عيد الفطر كان يشكو من عدم زيارة أبنائه له صافحته وعايدت عليه وسألته عن أبنائه فابلغني أنهم لم يأتوا لزيارته وكان اليوم الثاني لعيد الأضحى المبارك. تحدثت معه وواسيته وحاولت زرع الابتسامة على وجهه وقبلت رأسه وانتقلت إلى مسن آخر وكان سمعه ثقيلا فاقتربت من أذنه وعايدت عليه وعندما علم أنني لست مسؤولا واتيت فقط لزيارتهم مد يده الصغيرة وسلم علي وكانت يده قريبة من وجهه فقبل يدي على حين غرة فقبلت رأسه وشعرت باحترام كبير إلى هؤلاء الذين تخلى عنهم أبناؤهم حتى في أيام العيد، وتجولت في المكان وعايدت على الجميع. وأضاف العويضة : لاحظت عند زيارة الدار حرص حكومة خادم الحرمين الشريفين حفظها الله في الاهتمام بالمسنين وتوفير سبل الراحة لهم، فجزى الله حكومتنا والقائمين على دور الرعاية الاجتماعية خير الجزاء. ويقترح العويضة أن يقوم الآباء برفقة أبنائهم بزيارة كبار السن سواء في العائلة أو في الحي او ي دور الرعاية ليتربى على البر والصلة والرحمة ولا بأس من الزيارات الجماعية لأهل الحي او العائلة لبعض الدور للسلام على الكبار وتقديم بعض الهدايا الرمزية لهم وفي هذا العمل الأجر والثواب فضلاً عن المعاني والقيم التي تفرزها هذه الأعمال في نفوس الأبناء والأجيال كما تعمق الزيارة مفهوم العمل التطوعي الاجتماعي وأنه ليس حكراً على جماعة معينة أو مسئولية المؤسسات الخيرية فقط ولكن يستطيع المشاركة فيه أي فرد منا. مسنة أنهكها المرض والوحده يتوكأ عكازه متأملاً ماضيه «القرآن الكريم» ملاذ آمن وروحانية دائمة