استطاعت المدنية بكل تطوراتها ومبانيها الشاهقة أن تنهي إلى حد كبير الأحياء الشعبية وأسواقها البسيطة، حيث يعرف الباعة زبائنهم تماماً.. مثل «أم أحمد» التي تحضر آنيتها لشراء اللبن.. وتمر إلى النجار «أبو سليم» وقبل أن تخرج من السوق يُذكرّها الخباز «سعيد» بحصتها من رغيف المساء. وزادت المدنية من ضجيج الحياة، وأصبح من يعرفك يتهرب منك إذا رآك في مجمع تجاري.. ومثلما توسعت البيوت وإزدان جمال عمارتها فإنها تباعدت أيضاً وبات أهلها لا يلتقون إلاّ بالمصادفة.. فهل انعكست المدنية والتطور والطفرة الاقتصادية على التواصل الاجتماعي وحميمية الترابط الأسري الكبير بين الناس؟، أم أن المدنية لا دخل لها أمام التغير النفسي والسلوكي الذي أصبح يلون أفراد الأسرة الواحدة باللامبالة والخوف من الاقتراب للآخر حتى إن كان هذا الآخر هو شقيقه!. إذ شكّل الهم اليومي واللهث الدائم في حياة متسارعة حاجزاً اجتماعياً في واقع الأسر، وأصبح الغالبية لا يعيشون أجواءً اجتماعية متقاربة مثلما كان في السابق.. حينما كانت الأسرة تعني الكثير.. وكان التقارب الاجتماعي أكبر من نطاق العائلة الواحدة بل ممتد إلى الجيران والأصدقاء وأبناء القرية الصغيرة حتى أصبح الجميع جزءاً من منظومة اجتماعية متماسكة. ويظهر التساؤل عن سبب فقدان الحميمية الاجتماعية بين الأسر؟، ومن أسهم في إغلاق الأبواب أمام الآخرين؟، وهل الانشغال بيوميات الحياة ألغى اهتمامنا بتعميق الروابط الأسرية؟ حتى أصبحت منحصرة في الأعياد والأعراس، وربما العزاء. قلوب حاقدة وأرجعت «لطيفة العلي» أسباب الُبعد الأسري واختفاء التقارب في واقع التجمعات إلى عدم صفاء القلوب، حيث أصبحت مشحونة بأحكام مُسبقة وقرارات استبقاية غير مدروسة، مؤكدة أن الاجتماعات حتى وإن عُقدت فإن القلوب متباعدة، فهذه تحمل ضغينة على تلك لكونها لم تدعها إلى مناسبة، وأخرى غابت عن الأنظار لأنها تكره إحداهن؛ بسبب حديث نقل لها قالته عنها، مشيرةً إلى أن البعض أصبح يفضّل عدم الحضور؛ خشية حدوث مشاكل وخلافات وأصبح أفراد الأسرة الواحدة بقلوب متباعدة وأحقاد ليس لها مبرر إلاّ الجهل. وتمنّت أن يعود الزمن القديم، لكي تعود تجمعات الأسر «على قلب واحد» بسعادة يستمر أثرها حتى الزيارة الأخرى، من دون أن يتناقص العدد؛ نظراً للسعادة الكبيرة بين الفتيات والأمهات وكبار السن. تكلف وبهرجة واتفقت معها «نجيبة الفرج» مبينةً أن فقدان التقارب في التجمعات الأسرية يعود إلى التكلف الكبير والبهرجة والتصنع، حتى تشوه معنى الضيافة والزيارة، ودفع بعضهم إلى رفض التجمعات الأسرية؛ لكي لا يضطر إلى استقبال الضيوف في بيته، مشيرةً إلى أن المرأة ليس لها خيار في التكلف بضيافتها، فحينما لا تفعل مثل ما يتفق عليه الأخريات أنه من حسن الضيافة؛ فإنها تتعرض للنقد من قبل أفراد الأسرة فيقال إنها لم تُقدم ولم تحسن الضيافة، حتى تحولت التجمعات بين أفراد الأسرة إلى سباق تقديم أصناف الطعام الفاخرة، والتباهي بالأواني المنزلية، وتمضي الجلسة في أسئلة مسطحة لا قيمة لها مثل «من وين شريتي بيالات الشاي؟» و»كيف طريقة الحلى؟»، ما يبعث السأم تجاه الاهتمام بالقشور أكثر من الجوهر، من دون دعم لمعنى التواصل والتقارب بين الأسرة الواحدة. المتنزهات والاستراحات أفضل خيار لتجمع الأسر ثقافة انتماء وأصرت «حليمة عطا الله» على أن سر اختفاء الحميمية بين أفراد العائلة في تجمعاتهم ووجود البرود الاجتماعي؛ يعود إلى عدم تعميق ثقافة الانتماء بشكل حقيقي من قبل الكبار، سواءً كانوا أمهات أو آباء أو غيرهم، مطالبة إياهم أن يدفعوا الصغار من الشابات والشباب في الأسرة الواحدة على تفهم التواصل الأسري بشكله الحقيقي، وليس لمجرد الحضور لتسجل حضور، فحينما يرفض أو يتعذر أحد الأبناء عن المشاركة في الحضور في تجمع أسري في نهاية الأسبوع، فعلى الوالدين أن يشعرانه بأهمية وجوده والانتماء لعائلته ومناقشته لتأجيل اهتمامه الأخرى. وانتقدت توجيهات الأهل لأبنائهم أن يحضروا لأجل الحضور بإيعازات تُعمّق اللامسؤولية تجاه الأسرة مثل «تعش وامش» أو «سلّم واطلع» أو «لايشرهون عليك» أو «ورّهم وجهك»، موضحة أن الرتابة أصبحت تطال التجمعات تلك بسبب عدم الشعور بأهميتها، وربما لأن الناس أصبحوا في حالة انشغال دائم بسبب تسارع نبض الحياة التي أصبحت تستدعي اللهث الكبير تجاه متطلباتها، حتى إن الأزواج خاصة العاملين منهم أصبحوا يتثاقلون الخروج للتجمعات الأسرية؛ لأن لديهم ما هو أهم من مجرد أحاديث تثرثر في مجلس حسب ما يصفها بعضهم، فمع وجود العمل أصبح هناك تعدد لمشروعات أخرى كثيرة مرافقة للعمل؛ أسهمت في أن يتحول الإنسان إلى إنسان مستهلك من جميع الجوانب، وليس لديه طاقة للاستمتاع بعلاقاته الاجتماعية الأخرى. أثر المدنية وترى «أم مازن السعيد» أن التقارب الاجتماعي بشكله الحميم مازال موجوداً، خاصة في الأماكن المحافظة على سماتها الاجتماعية؛ لكونها تعيش في قرية مازالت تتمسك بمعاني التقارب في الأسرة الواحدة، والاستمتاع بزيارات لا يقبل أحدٌ من أفراد الأسرة أن تنقطع، حتى إن حدث ذلك لظروف طارئة فإن الرفض والامتعاض يأتي من الصغار قبل الكبار، مشيرةً إلى أنه كلما عاش الإنسان في مدينة مُتسعّة؛ أثرت ملامح الحياة في تلك المدينة على تواصله الاجتماعي؛ فتختفي القيمة من التقارب في محيط الأسرة، في حين كلما كان المكان صغيراً، والمدنية لم تقتحمه كثيراً، ولم تشوه الجوانب الجيدة به؛ فإن التواصل الاجتماعي يبقى قوياً ليس فقط على مستوى محيط الأسرة بل حتى في تواصل الناس بشكله العام بعضهم ببعض. ما ضيّعنا إلاّ ثقافة «تعش وامش» و«سلم واطلع» و«لا يشرهون عليك» و«ورّهم وجهك» تسارع تقني وأرجع «د. ناصر العود» أستاذ الخدمة الاجتماعية بجامعة الإمام محمد بن سعود ومستشار أسري، الافتقار للتقارب الاجتماعي الشائع بين أفراد الأسر إلى عدة أسباب أدت إلى انتشار الظاهرة بشكل كبير في الدول العربية والغربية وفقاً للأبحاث العلمية؛ وأبرزها تسارع التقنية المرتبطة بوسائل الاتصال، وكذلك أسباب مرتبطة بالضغط النفسي، وأسباب ترتبط بالانشغال بالأمور الحياتية، وكذلك عدم وجود برمجة عاطفية من قبل الأسرة على الأبناء، فالطفل يخرج مع الأسرة وهو مشغول بالبلاستيشن حتى يكبر وهو مشغول بالتقنية ولايفهم معاني الارتباط الأسري. وأضاف:»يوجد خلل لدى بعض الأسر في تعميق مفهوم احترام الأسرة والانتماء العاطفي لها بالسماح للأطفال والأبناء بذلك الانشغال الدائم بوسائل التقنية، حتى حينما يكونوا في تجمع أسري لا يتصوروا أن ذلك يسهم في إيجاد ضعف في علاقاته الأسرية»، مشيراً إلى أن انتشار التقنية بشكل كبير عوّض التواصل الحقيقي بين أفراد العائلة الواحدة حتى أصبحنا نجد من الناس من يتحدث معك عبر الجوال في دردشة وكأنه يجلس معك فتعرف كل تحركاته وربما رافق تلك الدردشة بعض الصور للمكان الذي يجلس فيه، حتى أضعفت التقنية من الحميمية الموجودة في واقع الأسر. وأكد أن للمدنية دوراً كبيراً في تحجيم العلاقات بين العائلة الواحدة، وأصبح البعض يفضل جلسات الاستراحات والخروج الدائم على جلسات الأهل والأقارب، مشيراً إلى أن التكلّف والتسابق على البرستيج الاجتماعي في طرق الضيافة وارتداء الثياب - خاصة لدى النساء - خلق صعوبةً في التواصل الدائم؛ حتى تحولت التجمعات الأسرية إلى تكلفة مادية كبيرة تتحملها الأسرة، إذ إن المبالغة أصبحت سمة في تلك التجمعات وأحدثت تباعداً أسرياً بين العائلة الواحدة. إنعاش اجتماعي ورأى «العود» أن أبرز الحلول من أجل إنعاش العلاقات الأسرية وعودتها إلى التواصل الحقيقي والحميمية يمكن في تقنين وسائل التقنية، وذلك بمساهمة من الآباء وكبار السن، مستشهداً بصورة تم تداولها إلكترونياً لسيدة اضطرت إلى تجميع الجوالات في كل تجمع أسري، على أن لا أحد يستلم جواله، إلاّ عندما يريد مغادرة مجلس الاسرة؛ لمنع الانشغال بالتقنية عن التجمعات الأسرية، إلى جانب وضع برامج أسرية ممتعة، كمشاهدة بعض المقاطع الطريفة لأفراد الأسرة في الصغر، أو إجراء مسابقات ظريفة ومحببة، إضافةً إلى البُعد عن الأحاديث التطفلية مثل معرفة أحوال الآخرين الشخصية والخاصة.