قضية عزوف الفتيات عن الزواج من غير المناسب اختزالها في مهر وزيادة عدد النساء وتعنتهن، بينما نغفل العوامل الاجتماعية والاقتصادية والأعراف التي تدور في فلك تقييد خيارات المرأة التي منحها إياها الإسلام في حديثنا المطول في عدد من المقالات حول الزواج والعزوف عنه سواء من المرأة أو الرجل في جريدة الرياض منذ أكثر من عام (عنوسة النساء العازفات عن الزواج، 3/10/2010، العنوسة، زواج أو لا زواج، ما المشكلة؟ 10/10/2010، العنوسة، 17/10/2010، عنوسة الرجال والحاجز الاقتصادي، 24/10/2010، أزمة الإسكان وشباب بلا زواج، 14/11/2010)، والتي أرى أنها أدت إلى أن تشكل عددا من المشكلات الاجتماعية منها تفاقم تأخر سن الزواج لدى الجنسين. وكنت قد أوضحت عددا من النقاط أولاً إشكالية وضع الفتاة في حالة سلبية تجاه عملية الزواج باعتبار أنها المطلوبة والتي ينبغي أن تبقى في حال انتظار للرجل الطالب كأحد أهم أسباب عدم زواج الفتيات، وصعوبة إن لم تكن استحالة تطبيق نموذج السيدة خديجة مع سيد البشر عندما طلبته للزواج، على مجتمعنا، والباب مفتوح لمن لديه تعليل أو تبرير. كما تحدثنا عن أن من أهم أسباب عزوف الشباب عن الزواج هي البطالة والبطالة و.. البطالة، حيث أننا نتحدث عن احتلال السعودية المرتبة الثانية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بعد العراق على صعيد أعلى نسب البطالة بين الشباب وفق تصريح وزير العمل في يوليو 2011، ونسبة تفوق 10% منذ 2009 وليس هناك رقم رسمي مُصرّح به بعد هذا التاريخ. ثم الرواتب المتدنية للغالبية التي تتخرج في جامعاتنا إن وجدوا وظيفة مما تجعل اشتراطات البنوك والتنمية العقارية للقروض والرهن لا تنطبق عليهم من قريب أو بعيد، وأزمة السكن التي وإن شهدت انفراجات بالأوامر الملكية لإنشاء وزارة إسكان وتوفير 500,000 وحدة سكنية، إلا أن المطلوب للأسف يفوق ذلك بكثير، فوفق الإحصاءات الرسمية إن الرقم المطلوب هو سكن لسبعة ملايين مواطن (انظر مقال د. عبدالعزيز العويشق في الوطن "هل توفر وزارة الإسكان منازل لسبعة ملايين مواطن؟" 29/3/2011). كما فندتُ وهم الأرقام التي توحي بأن عدد النساء أكبر من عدد الرجال وفق إحصاءات التعداد أو أن عدد غير المتزوجات أكبر من غير المتزوجين، وأوصلت إلى أن المجتمع يحتاج للحديث عن "عنوسة" الرجال التي تعد هي الظاهرة، وليس النساء. أما هنا فأود عرض دور المجتمع والثقافة وبعض المعلومات غير الدقيقة التي تُشاع حول تأخير الزواج أو فشله. موضوع المهور: يتعرض موضوع عزوف النساء عن الزواج إلى اتهام بأنهن يبحثن عن المهر المبالغ فيه وحفلات الزواج المبهرجة وما ينوء بجيب العريس وأهله، حتى أن مجلس الشورى جعله موضوعاً أساسياً للمناقشة دعا له نساء من مختلف الأطياف للتباحث معهن حوله منذ عشر سنوات في أول تعاون بين المجلس ونساء المجتمع (أمجاد علي رضا، الوطن 9/1/2002)، وعلى الرغم من أن عدداً منهن أوضحن أن المشكلة ليست في غلاء المهور وأنه حجة تُقاد ضد النساء اللاتي ليس لديهن خيارات واضحة، وإنما هي المشكلة الاقتصادية والبطالة التي يعاني منها معظم الشباب التي لا تجعلهم قادرين على فتح بيوت زوجية مناسبة، إلا أن هذا الرأي ليس هو ما عنون مانشتات الأخبار والمنتديات وإنما مطالب النساء لمهور عالية، ملقية بجل المسؤولية على النساء عامة، كأني بهم يقولون: على نفسها جنت براقش، وتبرئ المجتمع مما يقترفه من ظلم للمرأة. وهنا يُطرح السؤال: إلى أي درجة يمكن للمرأة أن تشارك في قرار اختيار شريك حياتها ومجالات الاختيار حولها محدودة؟ فمن ناحية هي مطالبة بألا تتخذ أي خطوة مبادرة للتعبير عن رغبتها في الزواج من شخص بعينه وإلا اعتبرت غير "متربية أو جريئة، أو حتى عاقة بالقانون" وأن تبقى في حال الانتظار المتعارف عليه. ومن ناحية أخرى هي مطالبة أن تبقى، وفق السياق المجتمعي الخصوصي السعودي، في حالة انفصال تام عن مجتمع الرجال بحيث لا يسمح محيط العمل أو الدراسة أو العائلة بتكون أي فرصة للتعارف "الرسمي" "العملي" "العلني" "الندّي" "المهني" (وأضع أكثر من خط تحت هذه الجملة وأرجو قراءاتها والتمعن فيها قبل التسرع في إطلاق الأحكام السلبية) وتبقى عملية التعارف متروكة إلى محيط العائلة من المعارف أو من سمع بهن أو عنهن، أو إلى تعارف خارج المملكة في بعض الأحيان يبتعد عن الأعراف الخاصة بالمجتمع السعودي، أو تعارف يمكن أن تسمح به بعض العائلات وفق نسقها الاجتماعي في إطارها الخاص. وهذه قضية لا شك خلافية وتثير حساسية الكثيرين للتصدي للدفاع عن العادات والتقاليد باسم الدين في كثير من الأحيان، تجعلنا لا نعرف في أي سياق تنطبق آية: "ولا تواعدوهن سراً" وما إذا كان هناك تواعد مقبول في العلن كان قائماً في صدر الإسلام تشير إليه هذه الآية؟ ومن ناحية أخرى تُحاصر المرأة بخيارات محدودة في إطار تقاليد القبيلة والأصل والفصل والسادة والأشراف الذي يرفع قيمة العصبية المنهي عنها إسلامياً إلى مصاف تتقدم فيها على الدين والخلق، في حين أن الرجل كما نعلم يُطلق له العنان في الزواج بمن رغب يمنة ويسرة دون قيود تُذكر إلا عندما تأتي في سياق الوطن، وإلا فلا قيود حقيقية عليه. بينما يضيق الخناق على المرأة السعودية ليس فقط للحفاظ على نسل وأملاك وعقارات القبيلة على مستوى المملكة، بل أيضاً إن رغبت في الزواج من غير مواطن، فهنا تحتاج ليس إلى موافقة أسرتها فحسب بل إلى موافقة وزارة الداخلية، وهي نفس الموافقة التي يحتاج إليها الرجل عند زواجه من غير مواطنة، لكنها لا تنعكس على زوجته وأبنائه كما يحدث مع المرأة، فالنظام والمجتمع بأنظمته يُعاقب المرأة والعائلة التي تتخذ هذا الخيار بكل أشكال التمييز الذي يُمارس على زوجها وأبنائها في مناح حياتية مختلفة تحدثت عنها من قبل وبحاجة لقول جديد. وباختصار فإن قضية عزوف الفتيات عن الزواج من غير المناسب اختزالها في مهر وزيادة عدد النساء وتعنتهن، بينما نغفل العوامل الاجتماعية والاقتصادية والأعراف التي تدور في فلك تقييد خيارات المرأة التي منحها إياها الإسلام، فضلاً عن إغفال رغبة البعض في الترويج لتعدد الزوجات وأشكال الزواجات الموضة كالمسيار والمصياف والمطيار والنهاري والأنس والفرند وغيرها لتبرير شهوات معينة بحجة خدمة الوطن ونسائه. ولا تزال كل نقطة مما سبق بحاجة إلى الكثير من التأمل والتحليل.